عبدالله بن عمرو بن العاص-في جيش معاوية
عبدالله بن عمرو بن العاص :القانت٬ التائب٬ العابد٬ الأواب٬ الذي نستهل الحديث عنه الآن هو: عبدالله بن عمرو بن العاص.
بقدر ما كان أبوه عمروبن العاص أستاذا في الذكاء والدهاء وسعة الحيلة.. كان هو أستاذا ذا مكانة عالية بين العابدين الزاهدين٬ الواضحين.
من هو عبد الله بن عمرو؟
لقد أعطى العبادة وقته كله٬ وحياته كلها.وثمل بحلاوة الايمان٬ فلم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبده ونسكه ذلك هو :عبدالله بن عمرو بن العاص..
عبد الله بن عمرو من السابقين
ولقد سبق عبدالله بن عمرو بن العاص أباه الى الاسلام٬ ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعا٬ وقلبه مضاء كالصبح النضير بنور الله ونور طاعته..عكف أولا على القرآن الذي كان يتنزل منجما٬ فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها٬ حتى اذا تم واكتمل٬ كان لجميعه حافظا..ولم يكن يحفظه ليكون مجرد ذاكرة قوية٬ تضم بين دفتيها كتابا محفوظا..
بل كان يحفظه ليعمر به قلبه٬ وليكون بعد هذا عبده المطيع٬ يحل ما أحل ٬ ويحرم ما يحرم٬ ويتجيب له في كل ما يدعو اليه ثم يعكف على قراءته٬ وتدبره وترتيله٬ متأنقا في روضاته اليانعات٬ محبور النفس بما تفيئه آياته الكريمة من غبطة٬ باكي العين بما تثيره من خشية..!!كان عبدالله قد خلق ليكون قديسا عابدا٬ ولا شيء في الدنيا كان قادرا على أن يشغله عن هذا الذي خلق له٬ وهدي اليه..
اذا خرج جيش الاسلام الى جهاد يلاقي فيه المشركين الذين يشنون عليه لحروب والعداوة٬ وجدنا عبدالله بن عمرو بن العاص في مقدمة الصفوف يتمنى الشهادة بروح محب٬ والحاح عاشق..!!
فاذا وضعت الحرب أوزارها٬ فأين نراه..؟؟هناك في المسجد الجامع٬ أو في مسجد داره٬ صائم نهاره٬ قائم ليله٬ لا يعرف لسانه حديثا من أحاديث الدنيا مهما يكن حلالا٬ انما هو رطب دائما بذكر الله٬ تاليا قرآنه٬ أو مسبحا بحمده٬ أو مستغفرا لذنبه..وحسبنا ادراكا لأبعاد عبادته ونسكه٬ أن نرى الرسول الذي جاء يدعو الناس الى عبادة الله. يجد نفسه مضطرا للتدخل كما يحد من ايغال عبدالله بن عمرو بن العاص في العبادة..!!
عبد الله بن عمرو العابد القانت
وهكذا اذا كان أحد وجهي العظمة في حياة عبدالله بن عمرو بن العاص ٬ الكشف عما تزخر به النفس الانسانية من قدرة فائقة على بلوغ أقضى درجات التعبد والتجرد والصلاح٬ فان وجهها الآخر هو حرص الدين على القصد والاعتدال في نشدان كل تفو ق واكتمال٬ حتى يبقى للنفس حماستها وأشواقها..وحتى تبقى للجسد عافيته وسلامته..!!
لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن عمرو بن العاص يقضي حياته على وتيرة واحدة..وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر الى الفجر في عبادة موصولة٬ صيام وصلاة٬ وتلاوة قرآن.
فاستدعاه النبي اليه٬ وراح يدعوه الى القصد في عبادته..قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" ألم اخبر أنك تصوم النهار٬ ولا تفطر٬ وتصلي الليل لا تنام..؟؟ فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام..
قال عبدالله:اني أطيق أكثر من ذلك..
قال النبي صلى الله عليه وسلم:فحسبك ان تصوم من كل جمعة يومين..
قال عبدالله:فاني أطيق أكثر من ذلك..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فهل لك اذن في خير الصيام٬ صيام داود٬ كان يصوم يوما ويفطر يوما..
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا:وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة واني أخشى أن يطول بك العمر وأن تمل قراءته.اقرأه في كل شهر مرة..اقرأه في كل عشرة أيام مر ة..اقرأه في كل ثلاث مر ة..ثم قال له:اني أصوم وأفطر..وأصلي وأنام.وأتزوج النساء٬ فمن رغب عن سنتي فليس مني".ولقد عمر عبدالله بن عمرو طويلا.. ولما تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح الرسول فيقول:" يا ليتني قبلت رخصة رسول الله"..
ان مؤمنا من هذا الطراز ليصعب العثور عليه في معركة تدور رحاها بين جماعتين من المسلمين.فكيف حملته ساقاه اذن من المدينة الى صفين حيث أخذ مكانا في جيش معاوية في صراعه مع الامام علي..؟الحق أن موقف عبدالله هذا٬ جدير بالتدبر٬ بقدر ما سيكون بعد فهمنا له جديرا بالتوقير والاجلال..
رأينا كيف كان عبدالله بن عمرو مقبلا على العبادة اقبالا كاد يشكل خطرا حقيقيا على حياته٬ الأمر الذي كان يشغل بال أبيه دائما٬ فيشكوه الى رسول الله كثيرا.وفي المرة الأخيرة التي امره الرسول فيها بالقصد في العبادة وحدد له مواقيتها كان عمرو حاضرا٬ فأخذ الرسول يد عبدالله٬ ووضعها في يد عمرو ابن العاص أبيه.. وقال له:" افعل ما أمرتك٬ وأطع أباك".وعلى الرغم من أن عبدالله٬ كان بدينه وبخلق٬ مطيعا لأبويه فقد كان أمر الرسول له بهذه الطريقة وفي هذه المناسبة ذا تأثير خاص على نفسه.وعاش عبدالله بن عمرو عمره الطويل لا ينسى لحظة من نهار تلك العبارة الموجزة." افعل ما أمرتك٬ وأطع أباك"
عبد الله بن عمرو في جيش معاوية وليس معه
وتتابعت في موكب الزمن أعوام وأيام ورفض معاوية بالشام أن يبايع عليا..ورفض علي أن يذعن لتمرد غير مشروع.وقامت الحرب بين طائفتين من المسلمين.. ومضت موقعة الجمل.. وجاءت موقعة صفين.كان عمرو بن العاص قد اختار طريقه الى جوار معاوية وكان يدرك مدى اجلال المسلمين لابنه عبدالله ومدى ثقتهم في دينه٬ فأراد أن يحمله على الخروج ليكسب جانب معاوية بذلك الخروج كثيرا.
كذلك كان عمرو يتفاءل كثيرا بوجود عبدالله الى جواره في قتال٬ وهو لا ينسى بلاءه معه في فتوح الشام٬ ويوم اليرموك.فحين هم بالخروج الى صفين دعاه اليه وقال له:يا عبدالله تهيأ للخروج٬ فانك ستقاتل معنا..وأجابه عبدالله:" كيف وقد عهد الي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أضع سيفا في عنق مسلم أبدا..؟؟
وحاول عمرو بدهائه اقناعه بأنهم انما يريدون بخروجهم هذا أن يصلوا الى قتلة عثمان وأن يثأروا لدمه الزكي .ثم ألقى مفاجأته الحاسمة قائلا لولده:" أتذكر يا عبدالله٬ آخر عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك: أطع أباك؟.فاني أعزم عليك الآن أن تخرج معنا وتقاتل".وخرج عبدالله بن عمرو طاعة لأبيه٬ وفي عزمه الا يحمل سيفا ولا يقاتل مسلما..
ولكن كيف يتم له هذا..؟؟حسبه الآن أن يخرج مع أبيه.. أما حين تكون المعركة فلله ساعتئذ امر يقضيه..!ونشب القتال حاميا ضاريا..ويختاف المؤرخون فيما اذا كان عبدالله قد اشترك في بدايته أم لا..ونقول: بدايته.. لأن القتال لم يلبث الا قليلا٬ حتى وقعت واقعة جعلت عبدالله بن عمرو يأخذ مكانه جهارا ضد الحرب٬ وضد معاوية..
وذلك ان عمار بن ياسر كان يقاتل مع علي وكان عمار موضع اجلال مطلق من أصحاب الرسول.. وأكثر من هذا٬ فقد تنبأ في يوم بعيد بمصرعه ومقتله.كان ذلك والرسول وأصحابه يبنون مسجدهم بالمدينة اثر هجرتهم اليها..وكانت الأحجار عاتية ضخمة لا يطيق أشد الناس قوة أن يحمل منها أكثر من حجر واحد.. لكن عمارا من فرط غبطته وتشوته٬ راح يحمل حجرين حجرين٬ وبصر به الرسول فتملاه بعينين دامعتين وقال:" ويح ابن سمية٬ تقتله الفئة الباغية".
جيش معاوية يقتل عمار بن ياسر وعبد الله بن عمرو يندد
سمع كل اصحاب رسول الله المشتركين في البناء يومئذ هذه النبوءة٬ ولا يزالون لها ذاكرين.وكان عبدالله بن عمرو أحد الذين سمعوا.وقد بدء القتال بين جماعة علي وجماعة معاوية٬ كان عماربن ياسر يصعد الروابي ويحر ض بأعلى صوته ويصيح." اليوم نلقى الأحبة٬ محمدا وصحبه".وتواصى بقتله جماعة من جيش معاوية٬ فسددوا نحوه رمية آثمة٬ نقلته الى عالم الشهداء الأبرار.وسرى النبأ كالريح أن عمار قد قتل.وانتفض عبدالله بن عمرو ثائرا مهتاجا:أوقد قتل عمار..؟وأنتم قاتلوه..؟اذن انتم الفئة الباغيةأنتم المقاتلون على ضلالة.!وانطلق في جيش معاوية كالنذير٬ يثبط عزائمهم٬ ويهتف فيهم أنهم بغاة٬ لأنهم قتلوا عمارا وقد تنبأ له الرسول منذ سبع وعشرين سنة على ملأ من المسلمين بأنه ستقتله الفئة الباغية..
معاوية يضيق بمقالة عبدالله بن عمرو ويطلب من أبيه التصرف
وحملت مقالة عبدالله الى معاوية٬ ودعا عمرا وولده عبدالله٬ وقال لعمرو:" ألا تكف عنا مجنونك هذا..؟ قال عبدالله:ما أنا بمجنون ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية.فقال له معاوية:فلم خرجت معنا:؟ قال عبدالله: لأن رسول الله أمرني أن أطيع أبي٬ وقد أطعته في الخروج٬ ولكني لا أقاتل معكم.
واذ هما يتحاوران دخل على معاوية من يستأذن لقاتل عمار في الدخول٬ فصاح عبدالله بن عمرو:ائذن له وبشره بالنار.وأفلتت مغايظ معاوية على الرغم من طول أناته٬ وسعة حلمه٬ وصاح بعمرو: أو ما تسمع ما يقول..وعاد عبدالله في هدوء المتقين واطمئنانهم٬ يؤكد لمعاوية أنه ما قال الا الحق٬ وأن الذين قتلوا عمارا ليسوا الا بغاة..
والتفت صوب أبيه وقال:لولا أن رسول الله أمرني بطاعتك ما سرت معكم هذا المسير.وخرج معاوية وعمرو يتفقدان جيشهما٬ فروعا حين سمعوا الناس جميعا يتحدثون عن نبوءة الرسول لعمار:تقتلك الفئة الباغية.
عبد الله بن عمرو يكاد يفكك جيش معاوية
وأحس عمرو ومعاوية أن هذه المهمة توشك أن تتحول الى نكوص عن معاوية وتمرد عليه.. ففكرا حتى وجدا حيلتهما التي مضيا يبثانها في الناس..قالا:نعم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار ذات يوم:تقتلك الفئة الباغية..ونبوءة الرسول حق..وها هو ذا عمار قد قتل..فمن قتله..؟؟انما قتله الذين خرجوا به٬ وحملوه معهم الى القتال"..!!وفي مثل هذا الهرج يمكن لأي منطق أن يروج٬ وهكذا راج منطق معاوية وعمرو..واستأنف الفريقان القتال..وعاد عبدالله بن عمرو الى مسجده٬ وعبادته..
وعاش حياته لا يملؤها بغير مناسكه وتعبده..غير أن خروجه الى صفين مجر د خروجه٬ ظل مبعوث قلق له على الدوام.. فكان لا تلم به الذكرى حتى يبكي ويقول:" مالي ولصفين..؟؟ مالي ولقتال المسلمين"..؟
عبد الله بن عمرو يلتقي الحسين بن علي
وذات يوم وهو جالس في مسجد الرسول مع بعض أصحابه مر بهم الحسين بن علي رضي الله عنهما٬ وتبادلا السلام..ولما مضى عنهم قال عبدالله لمن معه:" أتحبون أن أخبركم بأحب أهل الأرض الى أهل السماء..؟ انه هذا الذي مر بنا الآن.ز الحسين بن علي.وانه ما كلمني منذ صفين..ولأن يرضى عني أحب الي من حمر النعم"..!!
واتفق مع أبي سعيد الخدري على زيارة الحسين..وهناك في دار الحسين تم لقاء الأكرمين..وبدأ عبدالله بن عمروبن العاص الحديث٬ فأتى على ذكر صفين فسأله الحسين معاتبا:" ما الذي حملك على الخروج مع معاوية"..؟؟ قال عبدالله:" ذات يوم شكاني عمرو بن العاص الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له:" ان عبدالله يصوم النهار كله٬ ويقوم الليل كله.فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:يا عبدالله صل ونم.. وصم وافطر.. وأطع أباك..ولما كان يوم صفين أقسم علي أبي أن أخرج معهم٬ فخرجت..ولكن والله ما اخترطت سيفا٬ ولا طعنت برمح٬ ولا رميت بسهم"..!!
وفاة عبدالله بن عمرو
وبينما هو في الثانية والسبعين من عمره المبارك..واذ هو في مصلاه٬ يتضر ع الى ربه٬ ويسبح بحمده دعي عبدالله بن عمرو بن العاص الى رحلة الأبد٬ فلبى الدعاء في شوق عظيم..والى اخوانه الذين سبقوه بالحسنى٬ ذهبت روحه تسعى وتطير.والبشير يدعوها من الرفيق الأعلى:( يا أيتها النفس المطمئنة..ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)..
المصادر
رجال حول الرسول
خالد محمد خالد