موقع يهتم بالعلوم العربية مثل :العروض والقافية ، علم المواريث ،علم النحو والصرف، كما يهتم بالقصائد جميلة ،الشعر جاهلي ،الشعر حديث ،والسيرة النبوية وسير أصحاب رسول الله ،سيرة الصحابيات ،أحكام التلاوة،البلاغة،التاريخ
خباب بن الأرت صانع السيوف لأهل مكة .ومعلم القرآن.للمسلمين.
خرج نفر من القرشيين٬ يغدون الخطى٬ ميممين شطر دار خباب بن الأرت ليتسلموا منه سيوفهم التي تعاقدوا معه على صنعها.
خباب بن الأرت-صانع السيوف
وقد كان خباب بن الأرت سيافا٬ يصنع السيوف ويبيعها لأهل مكة٬ ويرسل بها الى الأسواق..
وعلى غير عادة خباب بن الأرت الذي لا يكاد يفارق بيته وعمله٬ لم يجده ذلك النفر من قريش فجلسوا ينتظرونه..وبعد حين طويل جاء خباب بن الأرت على وجهه علامة استفهام مضيئة٬ وفي عينيه دموع مغتبطة.. وحيا ضيوفه وجلس..وسألوه عجلين: هل أتممت صنع السيوف يا خباب؟؟
وجفت دموع خباب بن الأرت ٬ وحل مكانها في عينيه سرور متألق٬ وقال وكأنه يناجي نفسه: ان أمره لعجب.وعاد القوم يسألونه: أي أمر يا رجل..؟؟ نسألك عن سيوفنا٬ هل أتممت صنعها..؟؟
ويستوعبهم خباب بنظراته الشاردة الحالمة ويقول:هل رأيتموه..؟ هل سمعتم كلامه..؟ وينظر بعضهم لبعض في دهشة وعجب..ويعود أحدهم فيسأله في خبث:هل رأيته أنت يا خباب..؟؟ويسخر خباب من مكر صاحبه٬ فيرد عليه السؤال قائلا:من تعني..؟ويجيب الرجل في غيظ: أعني الذي تعنيه..؟
ويجيب خباب بن الأرتبعد اذ أراهم أنه أبعد منالا من أن يستدرج٬ وأنه اعترف بايمانه الآن أمامهم٬ فليس لأنهم خدعوه عن نفسه٬ واستدرجوا لسانه٬ بل لأنه رأى الحق وعانقه٬ وقرر أن يصدع به ويجهر.يجيبهم قائلا٬ وهو هائم في نشوته وغبطة روحه:أجل. رأيته٬ وسمعته.. رأيت الحق يتفجر من جوانبه٬ والنور يتلألأ بين ثناياه..!!وبدأ عملاؤه القرشيون يفهمون٬ فصاح به أحدهم:من هذا الذي تتحدث عنه يا عبد أم أنمار..؟؟
وأجاب خباب في هدوءالقديسين:ومن سواه٬ يا أخا العرب.. من سواه في قومك٬ من يتفجر من جوانبه الحق٬ ويخرج النور بين ثناياه..؟!
وصاح آخر وهب مذعورا:أراك تعني محمدا..وهز خباب بن الأرت رأسه المفعم بالغبطة٬ وقال:نعم انه هو رسول الله الينا٬ ليخرجنا من الظلمات الى االنور..ولا يدري خباب ماذا قال بعد هذه الكلمات٬ ولا ماذا قيل له..كل ما يذكره أنه أفاق من غيبوبته بعد ساعات طويلة ليرى زواره قد انفضوا.. وجسمه وعظامه تعاني رضوضا وآلاما ودمه النازف يضمخ ثوبه وجسده.
وحدقت عيناه الواسعتان فيما حوله.. وكان المكان أضيق من أن يتسع لنظراتهما النافذة٬ فتحمل على آلامه٬ ونهض شطر الفضاء وأمام باب داره وقف متوكئا على جدارها٬ وانطلقت عيناه الذكيتان في رحلة طويلة تحدقان في الأفق٬ وتدوران ذات اليمين وذات الشمال..انهما لا تقفان عند الأبعاد المألوفة للناس..انهما تبحثان عن البعد المفقود..أجل تبحثان عن البعد المفقود في حياته٬ وفي حياة الناس الذين معه في مكة٬ والناس في كل مكان وزمان..
ترى هل يكون الحديث الذي سمعه من محمد عليه الصلاة والسلام اليوم٬ هو النور الذي يهدي الى ذلك البعد المفقود في حياة البشر كافة..؟؟واستغرق خباب بن الأرت في تأملات سامية٬ وتفكير عميق.. ثم عاد الى داخل داره.. عاد يضمد جراح جسده٬ ويهيأه لاستقبال تعذيب جديد٬وآلام جديدة.
ومن ذلك اليوم أخذ خباب بن الأرت مكانه العالي بين المعذبين والمضطهدين.أخذ مكانه العالي بين الذين وقفوا برغم فقرهم٬ وضعفهم يواجهون كبرياء قريش وعنفها وجنونها..
أخذ مكانه العالي بين الذين غرسوا في قلوبهم سارية الراية التي أخذت تخفق في الأفق الرحيب ناعية عصر الوثنية٬ والقيصرية.. مبشرة بأيام المستضعفين والكادحين٬ الذين سيقفون تحت ظل هذه الراية سواسية مع أولئك الذين استغلوهم من قبل٬ وأذاقوهم الحرمان والعذاب..وفي استبسال عظيم٬ حمل خباب تبعاته كرائد.
يقول الشعبي:" لقد صبر خباب بن الأرت٬ ولم تلن له أيدي الكفار قناة٬ فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حتى ذهب لحمه"..!!أجل كان حظ خباب من العذاب كبيرا٬ ولكن مقاومته وصبره كانا أكبر من العذاب..
صبر خباب بن الأرت علي العذاب
لقد حول كفار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل خباب والذي كان يصنع منه السيوف.. حولوه كله الى قيود وسلاسل٬ كان يحمى عليها في النار حتى تستعر وتتوهج٬ ثم يطوق بها جسده ويداه وقدماه..ولقد ذهب يوما مع بعض رفاقه المضطهدين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم٬ لا جزعين من التضحية٬ بل راجين العافية٬ فقالوا:" يارسول الله.. ألا تستنصر لنا..؟؟" أي تسأل الله لنا النصر والعافية.ولندع خبابا يروي لنا النبأ بكلماته:" شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببرد له في ظل الكعبة٬ فقلنا: يا رسول الله٬ ألا تستنصر لنا.
فجلس صلى الله عليه وسلم٬ وقد احمر وجهه وقال:قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل٬ فيحفر له في الأرض٬ ثم يجاء بمنشار٬ فيجعل فوق رأسه٬ ما يصرفه ذلك عن دينه..!!وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخشى الله الله عز وجل٬ والذئب على غنمه٬ ولكنكم تعجلون".
سمع خباب بن الأرت ورفاقه هذه الكلمات٬ فازداد ايمانهم واصرارهم وقرروا أن يري كل منهم ربه ورسوله ما يحب ان من تصميم وصبر٬ وتضحية.وخاض خباب معركة الهول صابرا٬ صامدا٬ محتسبا.. واستنجد القرشيون أم أنمار سيدة خباب التي كان عبدا لها قبل أن تعتقه٬ فأقبلت واشتركت في حملة تعذيبه..وكانت تأخذ الحديد المحمى الملتهب٬ وتضعه فوق رأسه ونافوخه٬ وخباب يتلوى من الألم٬ لكنه يكظم أنفاسه٬ حتى لا تخرج منه زفرة ترضي غرور جلاديه.
ومر به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما٬ والحديد المحمى فوق رأسه يلهبه ويشويه٬ فطار قلبه حنانا وأسى٬ ولكن ماذا يملك عليه الصلاة والسلام يومها لخباب..؟؟ لا شيء الا أن يثبته ويدعو له..هنالك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم كفيه المبسوطتين الى السماء٬ وقال:" اللهم أنصر خبابا".
ويشاء الله ألا تمضي سوى أيام قليلة حتى ينزل بأم أنمار قصاص عاجل٬ كأنما جعله القدر نذيرا لها ولغبرها من الجلادين٬ ذلك أنها أصيبت بسعار عصيب وغريب جعلها كما يقول المؤرخون تعوي مثل الكلاب..!!وقيل لها يومئذ لا علاج سوى أن يكوى رأسها بالنار.وهكذا شهد رأسها العنيد سطوة الحديد المحم ى يصبحه ويمسيه.
كانت قريش تقاوم الايمان بالعذاب.. وكان المؤمنون يقاومون العذاب بالتضحية.. وكان خباب واحدا من أولئك الذين اصطفتهم المقادير لتجعل منهم أساتذة في فن التضحية والفداء..ومضى خباب ينفق وقته وحياته في خدمة الدين الذي خفقت أعلامه..ولم يكتف رضي الله عنه في أيام الدعوة الأولى بالعبادة والصلاة٬ بل استثمر قدرته على التعليم٬ فكان يغشى بيوت بعض اخوانه من المؤمنين الذين يكتمون اسلامهم خوفا من بطش قريش٬ فيقرأ معهم القرآن ويعلمهم اياه.
خباب بن الأرت معلم القرآن
ولقد نبغ خباب بن الأرت في دراسة القرآن وهو يتنزل آية آية.. وسورة٬ سورة حتى ان عبدالله بن مسعود٬ وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أراد أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل٬ فليقراه بقراءة ابن أم عبد"..نقول:حتى عبد الله بن مسعود كان يعتبر خبابا مرجعا فيما يتصل بالقرآن حفظا ودراسة.
وهو الذي كان يدرس القرآن لـفاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد عندام فاجأهم عمر بن الخطاب متقلدا سيفه الذي خرج به ليصفي حسابه مع الاسلام ورسوله٬ لكنه لم يكد يتلو القرآن المسطور في الصحيفة التي كان يعلم منها خباب٬ حتى صاح صيحته المباركة:" دلوني على محمد".
وسمع خباب كلمات عمر هذه٬ فخرج من مخبئه الذي كان قد توارى فيه وصاح:" يا عمر.والله اني لأرجوا أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم٬ فاني سمعته بالأمس يقول:اللهم أعز الاسلام بأحب الرجلين اليك.. أبي الحكم بن هشام٬ وعمربن الخطاب".
وسأله عمر من فوره: وأين أجد الرسول الآن يا خباب:" عند الصفا٬ في دار الأرقم بن أبي الأرقم"..ومضى عمر الى حظوظه الوافية٬ ومصيره العظيم.
شهد خباب بن الأرت جميع المشهد والغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم٬ وعاش عمره كله حفيظا على ايمانه ويقينه..وعندما فاض بيت مال لمسلمين بالمال أيام عمر وعثمان٬ رضي الله عنهما٬ كان خباب صاحب راتب كبير بوصفه من المهاجرين لسابقين الى الاسلام.
وقد أتاح هذا الدخل الوفير لخباب بن الأرت أن يبتني له دارا بالكوفة٬ وكان يضع أمواله في مكان ما من الدار يعرفه أصحابه ورواده.. وكل من وقعت عليه حاجة٬ يذهب فيأخذ من المال حاجته..ومع هذا فقد كان خباب لا يرقأ له جفن٬ ولا تجف له دمعة كلما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين بذلوا حياهم للله٬ ثم ظفروا بلقائه قبل أن تفتح الدنيا على المسلمين٬ وتكثر في أيديهم الأموال.
اسمعوه وهو يتحدث االى عو اده الذين ذهبوا يعودونه وهو رضي الله عنه في مرض موته.قالوا له:أبشر يا أبا عبدالله٬ فانك ملاق اخواتك غدا..فأجابهم وهو يبكي:" أما انه ليس بي جزع .. ولكنكم ذكرتموني أقواما٬ واخوانا٬ مضوا بأجورهم كلها ام ينالوا من الدنيا شيئا..وانا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما لم نجد له موضعا الا التراب"..وأشار الى داره المتواضعة التي بناها.ثم أشار مرة أخرى الى المكان الذي فيه أمواله وقال:" والله ما شددت عليها من خيط٬ ولا منعتها من سائل"..!ثم التفت الى كنفه الذي كان قدأعدله٬ وكان يراه ترفا واسرافا وقال ودموعه تسيل:" أنظروا هذا كفني.
لكن حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجد له كفن يوم استشهد الا بردة ملحاء.. اذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه٬ واذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه".
ومات خباب بن الأرت في السنة السابعة والثلاثين للهجرة..مات أستاذ صناعة السيوف في الجاهلية..وأستاذ صناعة التضحية والفداء في الاسلام..!!مات الرجل الذي كان أحد الجماعة الذين نزل القرآن يدافع عنهم٬ ويحييهم٬ عندما طلب بعض السادة من قريش أن يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما٬ وللفراء من أمثال :خباب٬ وصهيب٬ وبلال يوما آخر.
فاذا القرآن العظيم يختص رجال الله هؤلاء في تمجيد لهم وتكريم٬ وتهل آياته قائلة للرسول الكريم:( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه٬ ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين* واذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا٬ فقل سلام عليكم٬ كتب ربكم على نفسه الرحمة).
وهكذا٬ لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يراهم بعد نزول الآيات حتى يبالغ في اكرامهم فيفرش لهم رداءه٬ ويربت على أكتافهم٬ ويقول لهم:" أهلا بمن أوصاني بهم ربي"..أجل.. مات واحد من الأبناء البررة لأيام الوحي٬ وجيل التضحية.ولعل خير ما نود عه به٬ كلمات الامام علي كرم الله وجهه حين كان عائدا من معركة صفين٬ فوقعت عيناه على قبرغض رطيب٬ فسأل: قبر من هذا..؟ فأجابوه: انه قبر خباب بن الأرت..فتملاه خاشعا آسيا٬ وقال:رحم الله خبابا..لقد أسلم راغبا.وهاجر طائعا..وعاش مجاهدا..