زيد بن حارثة-حب رسول الله
زيد بن حارئة :انه ذلك الطفل الذي سبي٬ ثم بيع٬ ثم حرره الرسول وأعتقه.
زيد بن حارثة :ذلك الرجال القصير٬ الأسمر٬ الأفطس الأنف٬ بيد أنه أيضا ذلك الانسان الذي" قلبه جميع وروحه حرة".
من هو زيد بن حارثة؟
.ومن ثم وجد له في الاسلام٬ وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع مكان٬ فلا الاسلام ولا رسوله من يعبأ لحظه بجاه النسب٬ ولا بوجاهة المظهر.
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع جيش الاسلام الذاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة٬ قائلا:" عليكم زيد بن حارئة.. فان أصيب زيد فجعفر بن أبي طاب.. فان أصيب جعفر٬ فعبدالله بن رواحة".
من هذا الذي حمل دون سواه لقب الحب .. حب رسول الله..؟ أما مظهره وشكله٬ فكان كما وصفه المؤرخون والرواة:" قصير٬ آدم٬ أي أسمر٬ شديد الأدمة٬ في أنفه فطس"..أما نبأه فعظيم جد عظيم..
أعد حارثة أبو زيد بن حارئة الراحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن.وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة٬ وكلما هم أن يستودعهما القافلة التي خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو الى داره وعمله٬ ودفعه حنان خفي وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده..لكن الشقة بعدت٬ والقافلة أغذت سيرها٬ وآن لحارثة أن يودع الوليد وأمه ويعود..
وكذا ودعهما ودموعه تسيل.. ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى غابا عن بصره٬ وأحس كأن قلبه لم يعد في مكانه.. كأنه رحل مع الراحلين..
ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث..وذات يوم فوجئ الحي ٬ حي بني معن٬ باحدى القبائل المناوئة له تغير عليه٬ وتنزل الهزيمة ببني معن٬ ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليافع٬ زيد بن حارثة.
.وعادت الأم الى زوجها وحيدة.ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خر صعقا٬ وحمل عصاه على كاهله٬ ومضى يجوب الديار٬ ويقطع الصحارى٬ ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبة قلبه زيد٬ مسليا نفسه٬ وحاديا ناقته بهذا الشعر الذي راح ينشده من بديهته ومن مآقيه:
شعر حارثة في فقد ابنه زيد بن حارثة
بكيت على زيد ولم ادر ما فعل
أحي فيرجى؟ أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري٬ واني لسائل
أغالك بعدي السهل؟ أم غالك الجبل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها
وتعرض ذكراه اذا غربها أفل
وان هبت الأرواح هيجن ذكره
فيا طول حزني عليه٬ ويا وجل
كان الرق في ذلك الزمان البعيد يفرض نفسه كظرف اجتماعي يحاول أن يكون ضرورة..كان ذلك في أثينا٬ حتى في أزهى عصور حريتها ورقيها..وكذلك كان في روما..وفي العالم القديم كله.. وبالتالي في جزيرة العرب أيضا.وعندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها٬ وعادت حاملة أسراها٬ ذهبت الى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ٬ وباعوا الأسرى..
ووقع الطفل زيد بن حارئة في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة.وكانت خديجة رضي الله عنها٬ قد صارت زوجة لمحمد بن عبدالله٬ الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد. بيد أنه كان يحمل كل الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غدا من المرسلين..
ووهبت خديجة بدورها خادمها زيد بن حارئة لزوجها رسول اله فتقبله مسرورا وأعتقه من فوره وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية..وفي أحد مواسم الحج. التقى نفرمن حي حارثة بزيد في مكة٬ ونقلوا اليه لوعة والديه٬ وحملهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه٬ وقال للحجاج من قومه" " أخبروا أبي أني هنا مع أكرم والد"..
زيد بن حارثة يختار رسول الله ويسمي زيد بن محمد
ولم يكن والد زيد بن حارئة يعلم مستقر ولده حتى أغذ السير اليه٬ ومعه أخوه..وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين.. ولما لقياه قالا له:"يا بن عبدالمطلب..يابن سيد قومه٬ أنتم أهل حرم٬ تفكون العاني٬ وتطعمون الأسير.. جئناك في ولدنا٬ فامنن علينا وأحسن في فدائه".
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تعلق زيد به٬ وكان في نفس الوقت يقدرحق ابيه فيه.هنالك قال حارثة:"ادعوا زيدا٬ وخيروه٬ فان اختاركم فهو لكم بغير فداء.. وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء"..
وتهلل وجه حارثة الذي لك يكن يتوقع كل هذا السماح وقال:" لقد أنصفتنا٬ وزدتنا عن النصف"..ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم الى زيد٬ ولما جاء سأله:" هل تعرف هؤلاء"..؟قال زيد: نعم.. هذا أبي.. وهذا عمي.وأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله لحارثة.. وهنا قال زيد:" ما أنا بالذي أختار عليك أحدا٬ أنت الأب والعم"..!!ونديت عينا رسول الله بدموع شاكرة وحانية٬ ثم أمسك بيد زيد٬ وخرج به الى فناء الكعبة٬ حيث قريش مجتمعة هناك٬ ونادى الرسول:" اشهدوا أن زيدا ابني.. يرثني وأرثه"..
وكاد قلب حارثة يطير من الفرح.. فابنه لم يعد حر ا فحسب٬ بل وابنا للرجل الذي تسميه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها..وعاد الأب والعم الى قومهما٬ مطمئنين على ولدهما والذي تركاه سيدا في مكة٬ آمنا معافى٬ بعد أن كان أبوه لا يدري: أغاله السهل٬ أم غاله الجبل..
تبنى الرسول زيدا.. وصار لا يعرف في مكة كلها الا باسمه هذا زيد بن محمد..وفي يوم باهر الشروق٬ نادى الوحي محمدا:( اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الانسان من علق* اقرأ وربك الأكرم *الذي علم بالقلم *علم الانسان ما لم يعلم)
ثم تتابعت نجاءاته وكلماته:( يا أيها المدثر* قم فأنذر* وربك فكبر)
(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ان الله لايهدي القوم الكافرين)
وما ان حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعة الرسالة حتى كان زيد بن حارئة ثاني المسلمين.. بل قيل انه كان أول المسلمين.
أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما٬ وكان بهذا الحب خليقا وجديرا.. فوفاءه الذي لا نظير له٬ وعظمة روحه٬ وعفة ضميره ولسانه ويده
كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة أو زيد الحب كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام..
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها:
" ما بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في جيش قط الا أمره عليهم٬ ولو بقي حيا بعد رسول الله لاستخلفه
الى هذا المدى كانت منزلة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فمن كان زيد هذا؟
انه كما قلنا ذلك الطفل الذي سبي٬ ثم بيع٬ ثم حرره الرسول وأعتقه..وانه ذلك الرجال القصير٬ الأسمر٬ الأفطس الأنف٬ بيد أنه أيضا ذلك الانسان الذي" قلبه جميع وروحه حر"..ومن ثم وجد له في الاسلام٬ وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع مكان٬ فلا الاسلام ولا رسوله من يعبأ لحظه بجاه النسب٬ ولا بوجاهة المظهر.
ففي رحاب هذا الدين العظيم٬ يتألق بلال٬ ويتألق صهيب٬ ويتألق عمار وخباب وأسامة وزيد
يتألقون جميعا كأمراء وقادة..لقد صحح الاسلام قيم الاسلام٬ قيم الحياة حين قال في كتابه الكريم:( ان أكرمكم عند الله أتقاكم).وفتح الأبواب والرحاب للمواهب الخيرة٬ وللكفايات النظيفة٬ الأمينة٬ المعطية..
وزو ج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا من ابنة عمته زينب٬ ويبدو أن زينب رضي الله عنها قد قبلت هذا الزواج تحت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم٬ أو ترغب بنفسها عن نفسه..ولكن الحياة الزوجية أخذت تتعثر٬ وتستنفد عوامل بقائها٬ فانفصل زيد عن زينب.وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسؤولا عن امضائه٬ والذي انتهى بالانفصال٬ فضم ابنة عمته اليه واختارها زوجة له٬ ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت عقبة..
وذهب الشانئون يرجفون المدينة: كيف يتزو ج محمد مطلقة ابنه زيد؟؟فأجابهم القرآن مفر قا بين الأدعياء والأبنياء.. بين التبني والبنوة٬ ومقررا الغاء عادة التبني٬ ومعلنا:( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم٬ ولكن رسول الله٬ وخاتم النبين).وهكذا عاد لزيد اسمه الأول:" زيد بن حارثة".
والآن..هل ترون هذه القوات المسلمة الخارجة الى معارك٬ الطرف٬ أو العيص٬ وحسمي٬ وغيرها..ان أميرها جميعا٬ هو زيد بن حارثة..فهو كما سمعنا السيدة عائشة رضي الله عنها تقول:" لم يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قط الا جعله أميرا هلى هذا الجيش"..
زيد بن حارثة قائد غزوة مؤته
حتى جاءت غزوة مؤتة..كان الروم بأمبراطوريتهم الهرمة٬ قد بدأوا يتوجسون من الاسلام خيفة..بل صاروا يرون فيها خطرا يهدد وجودهم٬ ولا سيما في بلاد الشام التي يستعمرونها٬ والتي تتاخم بلاد هذا الدين الجديد٬ المنطلق في عنفوان واكتساح..
وهكذا راحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على الجزيرة العربية٬ وبلاد الاسلام.
وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف المناوشات التي بدأها الروم ليعجموا بها عود الاسلام٬ فقرر أن يبادرهم٬ ويقنعهم بتصميم الاسلام الى أرض البلقاء بالشام٬ حتى اذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من الروم ومن القبائل المستعربة التي كانت تقطن الحدود..ونزل جيش الروم في مكان يسمى مشارف..في حين نزل جيش الاسلام يجوار بلدة تسمى مؤتة٬ حيث سميت الغزوة باسمها..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية هذه الغزوة وخطرها فاختار لها ثلاثة من الرهبان في الليل٬ والفرسان في النهار..ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم ﷲ فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية الا في استشهاد عظيم يصافحون اثره رضوان الله تعالى٬ ويطالعون وجهه الكريم..وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم في امارة الجيش هم:زيد بن حارثة٬ جعفر بن أبي طالب٬ عبدالله بن رواحة.رضي الله عنهم وأرضاهم٬ ورضي الله عن الصحابوة أجمعين.وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف يودع الجيش يلقي أمره السالف:" عليكم زيد بن حارثة..فان أصيب زيد٬ فجعفر بن أبي طالب٬.فان أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة".وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي طالب كان من أقرب الناس الى قلب ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وعلى الرغم من شجاعته٬ وجسارته٬ وحسبه ونسبه٬ فقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمير التالي لزيد٬ وجعل زيدا الأمير الأول للجيش.وبمثل هذا٬ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر دوما حقيقة أن الاسلام دين جديد جاء يلغي العلاقات الانسانية الفاسدة٬ والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل٬ لينشئ مكانها علاقات جديدة٬ رشيدة٬ قوامها انسانية الانسان..
زيد بن حارثة بطولة نادرة
ولكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ غيب المعركة المقبلة حين وضع امراء الجيش على هذا الترتيب: زيد فجعفر٬ فابن رواحة.. فقد لقوا رب هم جميعا وفق هذا الترتيب أيضا.ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه بمائتي ألف مقاتل حتى أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب..ولكن متى كانت معارك الايمان معارك كثرة..؟هنالك أقدموا ولم يبالوا.. وأمامهم قائدهم زيد حاملا راية رسول الله صلى الله عليه وسلم٬ مقتحما رماح العدو ونباله وسيوفه٬ لا يبحث عن النصر٬ بقدر ما يبحث عن المضجع الذي ترسو عنده صفقته مع الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
لم يكن زيد بن حارثة يرى حواليه رمال البلقاء٬ ولا جيوش الروم بل كانت روابي الجنة٬ ورفرفها الأخضر٬ تخفق أمام عينيه كالأعلام٬ تنبئه أن اليوم يوم زفافه..وكان هو يضرب٬ ويقاتل٬ لا يطو ح رؤوس مقاتليه٬ انما يفتح الأبواب٬ ويفض الأغلاق التي تحول بينه وبين الباب الكبير الواسع٬ الي سيدلف منه الى دار السلام٬ وجنات الخلد٬ وجوار الله..وعانق زيد مصيره..وكانت روحه وهي في طريقها الى الجنة تبتسم محبورة وهي تبصر جثمان صاحبها٬ لا يلفه الحرير الناعم٬ بل يضمخ دمه طهور سال في سبيل الله..ثم تتسع ابتساماتها المطمئنة الهانئة٬ وهي تبصر ثاني الأمراء جعفرا يندفع كالسهم صوب الراية ليتسلمها٬ وليحملها قبل أن تغيب في التراب.
المصادر
رجال حول الرسول
خالد محمد خالد