ما حكم بيع الأجل-البيع بالتقسيط؟-عبدالرحمن عبدالخالق
الحمد لله الكبير المتعال، الذي أحل الحلال بفضله ورحمته، وحرم الحرام بعدله وحكمته، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى وعبده المجتبى محمد بن عبدالله وعلى آله وحزبه، وكل من سار على دربهم واقتفى آثارهم إلى يوم الدين.
وبعد،
اختلاف العلماء في بيع الأجل
بيع الأجل الذي يكون بزيادة في الثمن عن النقد قد اختلفت فيه كلمة علماء الأمة قديماً، ومازلنا نسمع الخلاف إلى اليوم، وقد كان في نفسي منذ عقلت الدين من هذا البيع شيء وذلك لورود حديث بالمنع، ولكن لما كان بعض أساتذتي من شيوخ العلم الذين تلقيت عنهم ممن يفتي بحل هذا استعظمت مخالفتهم، وخشيت أن يكون للحديث تأويل غير ما ظهر لي، واتهمت عقلي من أجل عقلهم، وقياسي من أجل قياسهم، وظللت على هذا الحال نحواً من عشرين سنة، بل تزيد وأنا أقلب الأمر على وجوهه كلما سئلت عنه أو خطر لي على بال، وأسال الله أن يلهمني فيه للرشد والصواب، ويشرح له صدري، ويوفقني على حقيقة الأمر في هذا البيع. وكنت في هذه الأثناء كلما سئلت عن هذه المسألة أحيل السؤال إلى غيري لأخرج من مسؤولية الفتوى بما لا أجزم، وإن كنت بحمد الله قد التزمت في شرائي وبيعي كله ألا أتعامل بهذه المعاملة، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: [دع ما يريبك إلى ما لا يريبك].
وإني أشعر الآن بحمد الله وتوفيقه أنني قد وصلت إلى اليقين الذي لا يجوز خلافه، ورأيت حتماً علي أن أذيع ما توصلت إليه بأدلته، وبراهينه، وإبراء لذمتي عند الله وتخلية لمسؤوليتي، ونصحاً لإخواني المسلمين، وتحذيراً لهم أن يقعوا في الربا تحت مسمى البيع.
وقد التزمت في هذه الرسالة المباركة -إن شاء الله تعالى- أن أعرض آراء العلماء ممن قال بجواز هذه المسألة وأدلتهم وبراهينهم في ذلك، بل أضفت إليها كل ما يخطر على البال من دليل في هذا الصدد، ثم ناقشت كل هذه الأدلة وأشباه الأدلة، بل والشبهات دليلاً دليلاً، وشبهة شبهة، مما يقطع العذر ويظهر الأمر على حقيقته، وذلك حتى تتضح الصورة من جميع جوانبها، ولا يكون هناك اعتراض صحيح لمعترض.
وإني لأسأل الله سبحانه وتعالى أولاً، أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يلهم المسلمين رشدهم وصوابهم، وأن يطهر أموالهم ونفوسهم، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه هو السميع العليم.
ماذا نعني ببيوع الآجال؟
معلوم أن البيع حلال بالقرآن والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (البقرة:275)، وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} (النساء:29). ومعلوم أيضاً أن البيع لا يكون حلالاً إلا بتحقيق شروط، وانتفاء موانع،
فمن شروط صحة البيع مثلاً:
- التراضي وانتفاء الجهالة في الثمن والسلعة لكل من المتبايعين،
- قدرة البائع على تسليم السلعة،
- حيازة السلعة في ملكه قبل بيعها،
- أن لا يكون فيها عيب قادح،
- أن يكون البيع لكل من البائع والمشتري خيار النكول والرجوع ما داما في مجلس البيع
- أن لا يكون هذا البيع مراداً به الربا كبيع العينة
ليس كل بيع حلالاً:
والمقصود هنا أن (قول الله تعالى: {وأحل البيع} (البقرة 275)) ليس على إطلاقه العام كما قد يتصوره بعض الناس بل المعنى وأحل الله البيع بشروطه ومواصفاته التي بينتها الآيات وأحاديث الرسول صلى اله عليه وسلم. وليس كل ما يسميه الناس بيعاً فهو حلال بل الحلال ما جاء موافقاً للشروط والمواصفات التي شرعها الله تبارك وتعالى، وأما ما كان بيعاً ينطوي على غرر، أو حيلة أو ربا فهو حرام كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المنابذة، والملامسة وهي بيوع باطلة كانت معروفة في الجاهلية، بل إن رسول الله نهى عن أكثر من ثلاثين نوعاً من البيوع الفاسدة.
أقسام بيوع الآجال:
ينقسم البيع عموماً إلى قسمين: ناجز، ومؤجل
البيع الناجز
البيع الناجز هو ما يتم فيه التبادل بين البائع والمشتري يداً بيد في وقت واحد ونعني بالتبادل، الثمن والسلعة، أو السلعة بالسلعة، كقمح بقمح أو قمح بتمر مثلاً وهذا له صورتان صورة مشروعة وصورة محرمة:
أ: فالصورة المحرمة بيع صنف بجنسه متفاضلاً كبيع تمر بتمر مع زيادة. أو بيع ذهب بذهب مع زيادة، أو فضة بفضة ونحو ذلك من أصناف معلومة كما جاء في الحديث.
ب: والصورة المشروعة إذا اختلفت الأصناف فيجوز البيع والاستبدال مع الزيادة كيف شئنا فيجوز مثلاً طن قمح بنصف طن تمر وهكذا ما دام أن التسليم في الحال.
البيع المؤجل:
فهو ما يتأخر فيه تسليم بدل عن بدل آخر، وهذا له صور كثيرة بعضها مشروع وبعضها غير مشروع.
أ: بيع تمر مثلاً أو قمح بصنف آخر كشعير ونحوه إلى أجل فهذا لا يجوز إجماعاً لقوله صلى الله عليه وسلم: [الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد] (رواه الإمام أحمد ومسلم).
ب: شراء (سلعة) ما مما يخرج من الأرض زروعاً أو ثماراً ليست موجودة الآن، وهذا يسمى (السلم، والسلف) وصورتها أن يبيع الفلاح كيلاً معلوماً أو وزناً معلوماً يسدده للمشتري وقت الحصاد ويأخذ ثمنه الآن وقت الشراء ويجوز هذا التأجيل لسنة أو اثنين أو أكثر كما جاء في الحديث المتفق عليه ونصه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: [من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم]. (رواه الجماعة)
أ: بيع سلعة ما بالدراهم والدنانير على أن يستلم المشتري السلعة الآن وقت العقد ويؤجل تسليم الثمن وهذا البيع ينقسم إلى قسمين:
1- أن يكون للسلعة سعر واحد فقط، سواء سدَّد المشتري في الحال أو تأخر في السداد فالبيع نقداً هو نفس البيع بالتأجيل أو ما يسمى (بالأقساط) وهذا هو البيع المشروع.
2- أن يكون للسلعة سعران، سعر للأجل وسعر للنقد، فيقال للمشتري: السلعة الآن بكذا، وإلى سنة بكذا وإلى سنتين بكذا وإلى ثلاث بكذا... وهذا هو محل الخلاف وموضوع الرسالة.
أدلة القائلين بجواز بيع الأجل مع الزيادة عن سعر الحال (النقد)
استدل القائلون بجواز بيع الأجل مع زيادة -من أجْلِ الأجل- بأدلة كثيرة نذكرها لك تفصيلاً ونجمع كل ما استدلوا به قديماً وحديثاً:
1- الإباحة الأصلية:
قالوا بأن الأصل في الأشياء الإباحة، والبيع مباح لأنه معاملة من المعاملات، وادعوا أنه لم يأت ما يحرم هذا البيع فيبقى على أصل الإباحة.
2- الإباحة الشرعية:
قالوا أيضاً قد جاءت الآيات القرآنية تبيح البيع كقوله تعالى {وأحل الله البيع} وهذا بيع من البيوع فيكون حلالاً، ما دام أنه لم يأت ما يحرمه حسب زعمهم.
3- القياس العقلي:
قالوا إن مقتضى القياس العقلي يبيح ذلك لأن التاجر حُرٌ في أن يبيع بأي سعر يريد، فقد يخفض السعر لهذا وقد يزيد على ذاك. ولا حرج في ذلك ما دام أنه يوجد تراضٍ وكذلك يجوز للبائع أن يزيد في السلعة من أجل الأجل فيقول: أبيعها الآن بعشرة ولسنة باثني عشر.
4- القياس الشرعي:
قالوا أيضاً والقياس الشرعي جوز ذلك. فقد أباح الرسول صلى الله عليه وسلم بيع السَّلم وهو تقديم الثمن (النقود) وتأخير السلعة، وقالوا والمعلوم أن من يشتري سلعة غير موجودة الآن، ولا يستلمها إلا بعد عام أو عامين، أو أكثر يشتريها بسعر أقل مثيراً عن سعر الشراء وقت العقد. فكذلك من يتأخر في السداد فإنه يدفعه زيادة عن سعر الحال، لأن التاجر سيصبر عليه. قالوا.. فبيع السلم هو العكس تماماً لبيع الأجل.
5- آية الدين:
واستدلوا كذلك بآية الدين التي يقول الله فيها: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} (البقرة:282) قالوا هذا دليل على بيع الأجل وأن الله قد أباحه وأمر بكتابة الدين!!
قلت: وهذا من أعجب استدلالاتهم!!
6- قولهم أن الرسول اشترى لأجل:
وزعموا كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مارس بنفسه هذا البيع واستدلوا لذلك بحديث البخاري الذي يرويه بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل فرهنه درعه. (رواه البخاري)
7- قولهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى البعير بالبعيرين إلى أجل:
واستدلوا كذلك بما رواه الإمام أحمد وأبو داود والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبعث جيشاً على إبل كانت عندي قال: فحملت الناس عليها حتى نفذت الإبل وبقيت بقية من الناس. قال فقلت: يا رسول الله الإبل قد نفذت وبقيت بقية من الناس لا ظهر لهم فقال لي: [أبتع علينا إبلاً بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى تنفذ هذا البعث] قال: وكنت ابتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى نفذت ذلك البعث. أ.هـ (رواه الإمام أحمد وأبو داود والدارقطني) فلما جاز أن يشتري الرسول البعير بالبعيرين والثلاثة إلى أجل جازت الزيادة في الدراهم والدنانير في البيع الأجل.
8- قولهم أنه يسر ومنفعة:
واستدلوا كذلك بأن بيع الأجل مع زيادة في السعر تيسير وسهولة لكل من البائع والمشتري، فالمشتري المعسر يأخذ السلعة بمقدم قليل، أو دون مقدم، ثم يسدد حسب راحته أقساطاً أو دفعة واحدة مؤجلة إلى حين ميسرته. والبائع يستفيد من البيع ويأخذ عوضاً عن صبره وانتظاره على المشتري فكل منتفع والدين يسر.
9- قولهم إن البائع بالأجل مخاطر:
واستدلوا كذلك بأن التاجر الذي يبيع بالأجل مخاطر بماله فلأنه يعطي السلعة من قد يعجز عن السداد ثم هو ينتظر حال يسره فكانت الزيادة من أجل ذلك معقولة وهي في مقابل مخاطرته وانتظاره.
10- زعمهم أن الحديث الذي ينهي مؤول:
وزعموا كذلك أن الحديث الذي ينهي عن بيعتين في بيعة ليس نصاً في التحريم بل هو مؤول ونص الحديث كما يلي: [من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا] (رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه. وذكره الشيخ ناصر في صحيح الجامع رقم 5992 وقال حسن وقد خرجته في الصحيحة رقم 2326 والارواء 1295، وأحاديث البيوع) قالوا قد فسر العلماء هذا الحديث بأن المقصود بيع العينة أو قول المشتري: أبيعك سيارتي على أن تبيعني سيارتك، وإذا فسر الحديث بأنه قول البائع هذه السلعة بعشرة نقداً وباثني عشر إلى أجل فالمقصود من ذلك النهي عن هذا البيع للجهالة أما إذا تفرقا وقد أبرما العقد على أجل محدد فالبيع صحيح.
11- زعمهم أن جماهير العلماء على ذلك:
وآخر ما استدلوا به لتحليل هذا البيع هو قولهم: إن جماهير علماء الأمة على حل هذا البيع أعني بيع الأجل مع زيادة عن سعر وقت الشراء قالوا ولم يخالف في هذا إلا قليل جداً فكيف نترك مذهب الأكثرية إلى مذهب الأقلية.
هذه خلاصة وافية لكل ما استدل به المستدلون لتحليل بيع الأجل مع زيادة، والآن تعالوا لنناقش هذه الأدلة دليلاً دليلاً.
مناقشة أدلة القائلين بالجواز والرد على شبهاتهم
1- الإباحة الأصلية:
قولهم بأن الإباحة الأصلية دليل شرعي. هذا كلام لا شك في صحته، فالأصل في الأشياء الإباحة. نعم ولكن قد جاء ما ينقل عن هذه الإباحة الأصلية وهو الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك (وسيأتي شرحه وتفصيله) وكذلك قول الصحابة الذي لا مخالف لهم، وكذلك القياس الصحيح الذي لا تجوز مخالفته، وكذلك سد الذرائع وكل هذه أدلة ناقلة عن هذه البراءة الأصلية المزعومة. وإليك تفصيل كل ذلك.
2- الإباحة الشرعية:
وأما قولهم إن هذا البيع يدخل في نصوص عامة كقوله تعالى {وأحل الله البيع}. وأن هذا بيع داخل فيه فهو حلال ما دام أنه عن تراض. فالرد على ذلك أن هذا بيع نعم، ولكن ليس حلالاً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حرمه، وليس كل بيع حلالاً فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن عشرات من البيوع الفاسدة كبيع العينة، وبيع الحصاة وبيع المنابذة، وبيع ما ليس عندك وبيع الغرر وبيع حبل الحبلة. الخ، وحرم الله كل أكلٍ لأموال الناس بالباطل ولو كان تحت مسمى البيع. كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض}. (النساء:29). والشاهد أن هذا العام (وأحل الله البيع) قد خصصته عشرات الأدلة المخصصة ومن جملة هذه المخصصات تحريم البيع إلى أجل مع زيادة عن سعر وقت الشراء وهو ما نحن بصدد بيان حرمته وفساده.
3- القياس العقلي:
وأما قولهم: إن القياس العقلي يقتضي حل هذا البيع لأن التاجر حر في أن يبيع بالسعر الذي يريد وقد يرفع السعر على فلان ويخفضه لفلان. وكذلك يجوز له أن يرفع السعر لمن يتأخر في السداد وأن يخفضه لمن يدفع في الحال.
والجواب أن هذا سائغ في العقل الذي لا يتأدب بأدب الشرع. والعقل الذي لا يفرق بين ما يسوغ فعله شرعاً وما لا يسوغ فعله شرعاً. نعم يجوز للتاجر أن يبيع بالسعر الذي يريد في الحال فقد يخفض السعر لرجل من أجل صداقته أو فقره وقد يخفضه لمن يشتري منه جملة مثلاً ويزيده على غير هؤلاء ولا شيء في ذلك، لكن أن يزيد في السعر لمجرد الأجل فهذا حرام لأن حقيقته أنه داينه بدين وزاد عليه في هذا الدين لأنه سيصبر عليه فإذا قال التاجر للمشتري هذه السلعة إذا دفعت الآن بمائة دينار. ولكن إذا تأخرت سنة فهي بمائة وعشر دنانير. فحقيقة هذا العقد أنه اشتراها منه بمائة الآن، ولما كان لا يملك السداد وأصبحت هذه المائة دينا عليه فإنه قال له: أمهلك في سداد المائة سنة على أن تدفع لي زيادة عشر دنانير، فانتقل البائع من كونه بائعاً إلى كونه مرابياً مسلفاً المائة بمائة وعشر. وهذا هو عين الربا. ولذلك فقولهم القياس العقلي يبيح هذا البيع قول باطل، ولأن تخفيض السعر لكون المشتري صديقاً أو فقيراً ونحو ذلك أمر سائغ شرعاً وعقلاً، وأما زيادة السعر من أجل الزمن فقط ومن أجل التأجيل فأمر محرم شرعاً لأنه دين بفائدة في مقال أجل. وهذا هو عين الربا المحرم. وإذن فالقياس العقلي الصحيح أن هذه الزيادة عن سعر الحال هي عين الزيادة التي يأخذها المرابي الذي يداين إلى أجل معلوم بزيادة عن رأس المال وإن كانت قد التبست بالبيع.
4- القياس الشرعي:
وأما قولهم إن بيع الأجل مع الزيادة هو نفس بيع السلم لأنه عكسه، فالسلم تعجيل الثمن وتأخير السلعة، وبيع الأجل تعجيل السلعة وتأخير الثمن. فهو قول فاسد أيضاً وقياس باطل لأمور كثيرة منها:
أ: أن السلف أو السلم قد جاء النص الواضح بإباحته وهذا قد جاء النص الواضح بتحريمه، فكيف يكون ما حرمه الله مثل ما أباحه؟ وكيف يقاس المشروع بالنص على المحرم بالنص؟ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا] (رواه أبو داود والحاكم).
وقد فسر هذا الحديث عامة العلماء بأنه قول البائع أبيعك هذه السلعة بكذا نقداً وبكذا إلى أجل أي بثمن أكبر إلى أجل. وأما في بيع السلم فقد جاء الحديث بالإباحة. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال صلى الله عليه وسلم: [من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم] (رواه الجماعة) فلا يجوز قياس المحرم بالنص على المباح بالنص لأنه لا قياس مع النص.
ب: ولا شك أيضاً أن السلم مستثنى من القاعدة العامة والمستثنى لا يجوز القياس عليه.
ج: السلم ليس فيه زيادة مال لأجل المدة والأجل، وأما في بيع الأجل مع زيادة فإنه لا يزاد فيه إلا لأجل الزمن. وهذا عين الربا. وأما المسلف فقد يكون مقصده ضمان الحصول على السلعة فقط في وقت حصادها فهو من باب المسارعة إلى الشراء. ثم فيه منفعة أكيدة لكل من المزارع والمشتري فالزارع يستفيد بتعجيل الثمن من أجل الإنفاق على زرعه، والمشتري يضمن حصول السلعة في الموسم. وهذه منافع متبادلة وليس فيها زيادة من أجل الأجل كما هو في بيع الأجل مع الزيادة.
5- آية الدين:
وأما استدلالهم بجواز بيع الأجل مع زيادة عن ثمن النقد يقول تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه..} الآية
فهو من أعجب استدلالاتهم، لأن الآية لم تتعرض من قريب أو بعيد إلى بيع الأجل مع زيادة وإنما هي آمرة بوجوب كتابة الدين والإشهاد عليه ولم تبين الآية هل هذا الدين دين تجارة وبيع، أو دين سلفة وقرض، أو غير ذلك، فهذا مسكوت عليه تماماً. وإنما أمرت فقط بكتابة كل دين سواء كان دين تجارة أو دين سلف ولا دخل للآية بتاتاً بتجويز بيع أجل بزيادة عن سعر الحال (النقد) ولذلك فالاستدلال بهذه الآية في هذا المكان لا معنى له بتاتاً.
6- زعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى لأجل:
وأما الزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى لأجل فنعم اشترى الرسول صلى الله عليه وسلم طعاماً من يهودي إلى أجل فرهنه درعه (أخرجه البخاري وانظر فتح الباري شرح البخاري ج4، ص399).
ولكن هل في هذا الحديث أو غيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى من اليهودي لأجل بزيادة عن سعر الحال؟!.. من زعم هذا الزعم فقد كذب على رسول الله. وقال ما لم يعلم. وأما شراء الرسول لأجل فأمر جائز لا شبهة فيه، لكنه بسعر النقد. وقد رهن الرسول درعه عند اليهودي حتى يوفيه حقه. فالزعم بأن الرسول اشترى لأجل مع زيادة زعم باطل وكذب صريح على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن رسول الله لا يخالف فعله قوله. {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} الآية.
7- بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً:
وأما استدلالهم بأن رسول الله أمر عبدالله بن عمرو بن العاص أن يبتاع إبلاً بقلائص من إبل الصدقة. وأن عبد الله اشترى البعير بالبعيرين والثلاثة إلى أجل، فحديث صحيح نعم رواه الإمام أحمد وأبو داود والدارقطني وهذا نصه: عن عبدالله بن عمرو قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبعث جيشاً على إبل كانت عندي. قال فحملت الناس عليها حتى نفذت الإبل وبقيت بقية من الناس قال فقلت: يا رسول الله الإبل نفذت وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم، فقال لي: [ابتع علينا إبلاً بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى تنفذ هذا البعث]. قال وكنت ابتاع البعير بقلوصين، وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى نَفَّذْتُ ذلك البعث. فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث قاله ابن حجر في الفتح (أخرجه الدارقطني وغيره وإسناده قوي) وقد قال به جمع من الصحابة والتابعين وقد روى عن ابن عباس كراهية ذلك وتبعه جمع من التابعين أيضاً. قياساً منهم على بيع الشيء من جنسه متفاضلاً. فالذين ذهبوا إلى كراهية هذا البيع أعني بيع الحيوان من جنسه متفاضلاً قاسوا على ذلك على نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب والفضة والقمح والشعير والزبيب والملح كل صنف بجنسه متفاضلاً (ولا شك أن هذا هو الصحيح أيضا لأنه قد جاء كذلك النص الصحيح بتحريم ذلك كما روى الإمام أحمد والدارمي والطحاوي عن سمرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً، صحيح الجامع رقم 6807)
ومن ذهب إلى إباحة الحيوان بالحيوان متفاضلاً فإنما رأى أن هذا استثناء من القاعدة. وهذا الاستثناء يجب أن يظل في مكانه. أعني أن من يقول بجواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً كالبعير بالبعيرين، والشاه بالشاتين يجب أن يكون قوله هذا في الحيوان فقط الذي ورد فيه النص. ولا يجوز أن يتخذ من هذا قاعدة عامة وحكما عاماً يهدم به ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من عدم جواز بيع الشيء من جنسه متفاضلاً. والذين يستدلون بحديث ابن عمرو هذا بجواز كل زيادة من أجل الأجل مخطئون لأنهم يقيسون في غير مجال للقياس وينبني على قولهم هذا جواز بيع دينار بدينارين إلى أجل. وخمسين طناً من القمح بستين طناً إلى أجل وهو أمر مجمع على تحريمه ثم والبعير بالبعيرين ليس من شرط أن يكون لأجل فضل البعيرين على البعير بل قد يكون البعير الواحد خيراً من بعيرين كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما (قد يكون البعير خير من البعيرين) ولهذا كره ابن عباس رضي الله عنه بيع البعير بالبعيرين إلى أجل (وذلك للحديث الصحيح (نهى رسول الله عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)) ورأى جواز ذلك في الحال فقط
وما رواه البخاري رحمه الله من بيع ابن عمر راحلته بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها بالربذة، إنما هو من باب الحال وليس من باب الأجل، وعلى كل حال حتى لو قلنا بجواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً إلى أجل فيجب أن يظل ذلك في الحيوان فقط الذي جاء النص به كما قال ابن المسبب: لا ربا في الحيوان: البعير بالبعيرين والشاه بالشاتين إلى أجل رواه البخاري. فقوله (لا ربا في الحيوان) ظاهر في أن هذا لأجل ما فيه من الربا، ولكن ما دام قد جاء النص بإباحته فيباح في حدود هذا النص.
وبهذا البيان يظهر لك أن من ذهب إلى الاستدلال بهذا الحديث على جواز بيع أي سلعة بالنقود والدراهم بسعر أعلى من سعر الحال (النقد) فقد أبعد النجعة واستدل بغير دليل. وقاس قياساً في غير موضعه تماماً، ويلزمه القول بجواز بيع دينار بدينارين إلى أجل.
8- زعمهم أن بيع الأجل مع زيادة يسر ومنفعة:
وأما الزعم بأن بيع الأجل مع زيادة تيسير ومنفعة لكل من البائع والمشتري، حيث يأخذ المشتري السلعة بمقدم قليل، أو دون مقدم ويقسط له المبلغ بطريقة تناسبه، فيستفيد بتأخير السداد وتقسيطه إلى حين يسره، وينتفع البائع بالزيادة التي يأخذها في مقابل الانتظار. فحجة واهية جداً من وجوه كثيرة.
أولاً: أنها نفس الحجة التي يستدل بها المرابي الذي يسلف النقود لأجل، فالمستلف للنقود يستفيد بالمال في حاجة استهلاكية أو استثمارية، ثم يؤدي حال يسره مع زيادة، وصاحب النقود وهو المرابي يستفيد بالزيادة في مقابل الانتظار فحجتهم هذه نفس حجة المرابي سواء بسواء. وإذا أرادوا التيسير فعلاً فإنه ممكن دون هذه الزيادة الربوية. وذلك عندما يقسط البائع ثمن سلعته على المشتري دون أن يزيد عليه في مقابل الأجل. فلماذا لا يمهل المسلم أخاه المسلم وينتظر عليه. هذا هو التيسير الشرعي الحقيقي واليسر الذي جاء به الدين وحث عليه ويؤجر عليه صاحبه. وأما بيع التاجر سلعته لأجل مع زيادة على المشتري من أجل الأجل فقط فلا شك أنه مخالف لروح الدين، ومن يشتري منه يشتري منه مضطراً للحاجة ولو وجد من يبيعه مؤجلاً بنفس سعر الحاضر لما اشترى من الذي يزيد عليه من أجل الأجل ولكن لكونه مضطراً فإنه يشتري مع الزيادة الربوية التي يزيدها البائع من أجل الانتظار والصبر على المشتري.
9- زعمهم أن البائع بالأجل مخاطر:
وأما قولهم أن البائع بالأجل مخاطر لأنه لا يتأكد تماماً هل يسدد المشتري الثمن أم لا؟ وأنه كلما زادت مدة الإمهال زادت المخاطرة فجاز عندئذ أن يأخذ زيادة من أجل تحمل هذه المخاطر، فهو باطل أيضاً. وهي نفس حجة المرابي، فمعلوم أن المرابي غير ضامن لسداد المدين. وذلك أن المدين قد يعجز إذا حل وقت السداد، وأنه كذلك كلما طالت مدة القرض كلما زادت المخاطرة ومن أجل ذلك فإن المرابي يزيد نسبة (الربا) (الربح) كلما طالت المدة، ولذلك فهذه الحجة واهية لأنها نفس حجة المرابي والحقيقة أن التاجر الذي يزيد في ثمن السلعة من أجل الأجل فيقول لك هذا الشيء بعشرة نقداً واثني عشر إلى سنة فهو قد بايعك الشيء بعشرة ثم لما كان له في ذمتك عشرة دنانير فإنه يبيعك هذه العشرة الحالة باثني عشر إلى أجل.
والخلاصة: هنا أن حجة المخاطرة بالانتظار حجة واهية. لأنها نفس حجة من يبيح أخذ زيادة على الدين في مقابل الأجل. وأما التيسير فإنه حاصل إذا أمهل البائع المشتري في السداد ولم يأخذ عليه زيادة في مقابل الأجل. وهو ما يتفق مع روح الشريعة وسماحتها وأخوة الإسلام. وأما أخذ زيادة في مقابل الأجل فهو ما يتنافى مع روح الشريعة وأخوة الدين وسماحة الإسلام.
10- الرد على التأويل الباطل لحديث من باع بيعتين في بيعة:
وأما تأويلهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم [من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا] (رواه أبو داود) بأن المقصود من النهي في الحديث أنه للجهالة فتأويل باطل فقد زعموا أن مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم من النهي عن بيعتين في بيعة هو أن يقول البائع للمشتري: (أبيعك هذا الثوب بعشرة نقداً وبثلاثة عشر إلى أجل) فإن قال المشتري: قبلت، وتفرقا على ذلك. ولم يحدد أي الصفقتين يريدان: المؤجلة أو النقد فإن البيع بهذه الصورة يكون عندهم فاسداً للجهالة. وأما إذا عقدا البيع على واحدة من الصفقتين، فقال المشتري مثلاً قبلت أن آخذها بثلاثة عشر إلى أجل كذا. فهو بيع صحيح لانتفاء الجهالة عندهم. وزعموا أن هذا هو مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. ولا يخفي أن هذا التفسير باطل للحديث لأن نص الحديث يقول: [من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا] معلوم أن الأوكس يعني الأقل فإذا فسرنا الحديث بأن معناه أن يقول البائع للمشتري أبيعك هذه السلعة بعشرة حالة (نقدا) وباثني عشر إلى أجل فهذه صفقتان في صفقة واحدة، فإذا أخذ المشتري الأوكس وهو الأقل كان هذا جائزا وأما إذا أخذ الأكثر فقد أعطى الربا فنهي الرسول عن بيعتين في بيعة واحدة إنما هو للربا. وليس للجهالة كما زعموا.
بل ليس هناك جهالة قط لو خير البائع المشتري بين أن يأخذ نقداً أو نسيئة. لأن الأمر محصور بين شيئين وكل منهما بالخيار: المشتري والبائع، ولذلك فليس هناك جهالة في مثل هذا البيع. فعلى القول بإباحة الزيادة للأجل لا يكون البيع باطلاً لو قال البائع للمشتري هذا الثوب بعشرة نقداً وباثني عشر إلى أجل. وقال المشتري قبلت وتفرقا على ذلك. أين الجهالة هنا؟! الحق أنه لا جهالة لأن البائع قد خير المشتري ورضي بخياره، فالبيع صحيح ولا يوجد هنا جهالة قط. لأن الأمر محصور ومحدود. ولذلك فتفسير الحديث بأن الرسول إنما ينهي عن ذلك للجهالة تفسير بعيد جداً. وتأويل لا شك في بطلانه. وإنما انصب نهي الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث على الزيادة الربوية التي يأخذها البائع في مقابل الأجل ولذلك قال: [فله أوكسهما] أي الأقل [أو الربا] وهو الزيادة التي يتقاضاها البائع في مقابل تأخير السداد.
ومنهم من رد هذا الحديث بعلل واهية منها أنه ليس نصاً في تحريم بيع الأجل مع الزيادة لأنه يحتمل معاني أخرى منها:
بيع العينة: لأن حقيقته أنه بيع شيء واحد مرتين؛ فالمشتري يقول للبائع أشتري منك هذه السيارة بألفين إلى سنة وأبيعك إياها بألف حالة (نقدا). فيأخذ منه ألف نقداً ويكون عليه ألفان إلى سنة.
والجواب: أن هذا بيع لا شك في تحريمه وقد جاء النص بذلك فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع العينة وهذا هو بيع العينة ولا شك أن هذا البيع ليس هو المقصود في هذا الحديث بدليل قوله صلى الله عليه وسلم [فله أوكسهما أو الربا] وهذا لا ينطبق على بيع العينة، حيث هو نوع آخر من أنواع البيوع الفاسدة.
ومنهم من فسر الحديث بأنه أن يقول البائع للمشتري أبيعك هذا البيت على أن تبيعني هذه السيارة فيكون هذا في مقابل تلك فهذا قد يدخل في عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة ولكن لا يفسر [فله أوكسهما أو الربا] ولذلك قال الإمام الشوكاني: (وقد فسر ذلك الشافعي بتفسير آخر فقال: هو أن يقول بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا: أي إذا وجب لك عندي وجب لي عندك وهذا يصلح تفسيراً للرواية الأخرى من حديث أبي هريرة (نهى عن بيعتين في بيعة) لا الأولى فإن قوله [فله أوكسهما أو الربا] يدل على أنه باع الشيء الواحد بيعتين: بيعة بأقل، وبيعة بأكثر) أ.هـ (نيل الاوطار ص172 ج5).
ومنهم من فسر الحديث بأن معناه أن يبيع البائع سلعة لأجل فإذا حل الأجل ولم يستطع المشتري الوفاء، قال له البائع أبيعك إياها مرة ثانية لأجل ثان بزيادة. فيكون قد باع الشيء الواحد مرتين وهذا تفسير بعيد كذلك لأن البيع الثاني لا يسمى بيعاً للسلعة وإنما هو بيع للدين بدين آخر وهذا قد جاء النهي عنه في أحاديث أخرى ولا يخفى تحريم ذلك فلم يبق بعد ذلك إلا التفسير الواضح للحديث وهو أن يقول البائع للمشتري أبيعك هذه السيارة بألف نقداً وبألف ومائتين إلى سنة، وهذا الذي فسره به سماك راوي الحديث حيث قال (هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بِنَساً كذا، وهو بنقد بكذا وكذا. رواه أحمد قال الشوكاني (قوله من باع بيعتين في بيعة) فسره سماك بما رواه المصنف عن أحمد عنه وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال: بأن يقول بعتك بألف نقداً أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا ) أ.هـ(نيل الاوطار ص172 ج5).
وهذا ما فسر به جماهير العلماء وبهذا تعلم أن الحديث نص صريح واضح في تحريم بيع الأجل مع زيادة عن بيع الحال (النقد).
وأما الطعن في الحديث فباطل أيضاً فقد رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وكذلك حسنه الشيخ ناصر الدين الألباني كما هو مذكور في صحيح الجامع رقم 5992.
11- الزعم بأن جماهير العلماء على خلاف هذا الحديث:
وأما زعمهم أن جماهير العلماء على خلاف هذا الحديث فهو زعم باطل أيضاً من وجوه كثيرة:
منها: أن الإجماع منعقد على أنه من استبانت له سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز له أن يتركها لقول قائل كائناً من كان كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه (أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله لم يحل له أن يدعها لقول أحد).
فالحجة إنما هي في قول الله تبارك وتعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن العكس هو الصحيح، فالصحابة وجمهور التابعين على تحريم هذه المعاملة أعني بيع الأجل بزيادة عن سعر النقد، وإنما شاعت هذه المعاملة في المتأخرين فقط بل إن تحريم هذه المعاملة قد جاء عن ابن عباس وابن مسعود ولا مخالف لهما من الصحابة وإليك الدليل على كل ما نقول:
(1) روى عبد الرزاق في مسنده قال: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال: إذا استقمت بنقد وبعت بنقد فلا بأس به، وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا. إنما ذلك ورق بورقٍ. (المصنف ج8 ص236 رقم15028)
وهذا نص في تحريم هذه المعاملة والمعنى إذا قومت السلعة بنقد، فقلت هذه تساوي مائة دينار، ثم بعتها بالمائة نقداً فهذا بيع لا بأس به. وأما إذا قلت هذه تساوي مائة دينار وأبيعك إياها بمائة وعشرين إلى سنة فهذا معناه أنك داينت المائة دينار الحالة بمائة وعشرين إلى سنة. وهذا معنى قول ابن عباس (إنما ذلك ورق بورقٍ) أي بيع فضة بفضة، وهذا حرام إلى أجل!! ولا يعرف في الصحابة فيما أعلم من خالف هذه الفتوى وبذلك تكون هذه الفتوى من ابن عباس قول صحابي لا مخالف له، وقد وافق هذا الحديث الصحيح.
وبأثر ابن عباس أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: (إذا قال هذا يساوي الساعة كذا وكذا وأنا أبيعه بكذا أكثر منه إلى أجل فهذا ربا. كما قال ابن عباس -رضي الله عنه- إذا قومت نقداً وبعت نقداً فلا بأس، وإذا قومت نقداً وبعت إلى أجل فتلك دارهم بدراهم) أ.هـ (الفتاوى ج29 ص306-307). ولم يذكر الإمام شيخ الإسلام مخالفاً لهذه الفتوى علماً أنه يتكلم إن كان في المسألة قولان، ونحو ذلك مما يدل على أن مثل هذا مستقر معلوم لا مخالف له.
(2) وقد فصلنا آنفا عن الإمام الشافعي رحمه الله تفسير بيعتين في بيعة حيث يقول (هو أن يقول بعتك بألف نقداً أو ألفين إلى سنة) (نيل الأوطار ج5 ص172) وهذا دليل على أن هذه المعاملة محرمة عنده. وإن كان قد فسرها بأن النهي هذا إنما هو للجهالة كما ذكر ذلك صاحب (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج3 ص432) والحق أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في الحديث ليس للجهالة كما بيناه آنفا وإنما للربا المتحصل من الزيادة من أجل الأجل وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم [فله أوكسهما أو الربا] والشاهد هنا أن الإمام الشافعي قد فسر الحديث بأنه أن يقول البائع بعتك بألف نقداً أو ألفين إلى سنة وأن هذا هو معنى نهي الرسول عن بيعتين في بيعة.
(3) وقد ذهب إلى تحريم هذه المعاملة أيضاً الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه كما قال الإمام ابن حزم: حدثنا عياش بن أصبغ أنبأنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل أنبأنا عبد الأعلى أنبأنا حماد عن قتادة وأيوب السختياني، ويونس بن عبيد وهشام بن حسان كلهم عن حمد بن سيرين قال: شرطين في بيع أبيعك إلى شهر بعشرة فإن حسبته شهراً فتأخذه عشرة. قال شريح أقل الثمنين وأبعد الأجلين أو الربا. قال عبدالله أي ابن الإمام أحمد فسألت أبي فقال: هذا بيع فاسد. أ.هـ (المحلى ج9 ص16، ومسائل الإمام أحمد ص202) وهذا نص من الإمام أحمد على فساد هذا البيع ومعنى شرطين في بيع كما فسره - أن تقول هذه السلعة إذا سددت بعد شهر بعشرة فإن أردت السداد بعد شهرين فتزيد عشرة وهو عين ما يفعل الآن في مسمى بيع الأقساط حيث يقال للمشتري: هذه السيارة لمدة سنة بألفين ولثلاث سنوات بألفين ومائتين أو زيادة عشرة في المائة ونحو ذلك.
وبهذا الذي قلنا من كلام ابن عباس وابن سيرين وشريح والإمام أحمد والإمام الشافعي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم يتبين لك أن هذه معاملة محرمة وخاصة أن هؤلاء الذين وقفنا على نصهم في التحريم استندوا إلى الدليل الشرعي وهو الحديث الصحيح والنظر العقلي والقياس الجلي كما هو كلام ابن عباس رحمه الله أن الزيادة على ثمن الحال تكون من باب بيع الدراهم بالدراهم وأما المخالفون لهؤلاء فليس معهم دليل أصلاً، لا من كتاب ولا سنة ولا من قول صحابي أو تابعي ولا من نظر صحيح أو قياس معقول بل كلهم متفقون على أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة وأن هذه الصورة: بعتك بمائة نقداً ومائة وعشرة إلى سنة داخله في عموم نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة ولكنهم عادوا وأولوا النهي بأنه للجهالة وأن الجهالة إذا انتفت بتعيين إحدى الصفقتين جاز وقد بينا أن هذا التأويل بعيد لأنه لا جهالة في هذا الأمر، وإنما النهي للربا بدليل قوله صلى الله عليه وسلم [فله أوكسهما أو الربا] وبهذا يتبين لك أن القول بأن أكثر العلماء على مخالفة هذا الحديث قول مجانب للصواب أيضاً. بل عامة الصحابة والتابعين على العمل بهذا الحديث حسب الفهم الذي بيناه وشرحناه. وعلى كل حال فالحديث حاكم على غيره من أقوال العلماء وليست أقوال العلماء هي التي تحكم على الحديث لأن الله سبحانه وتعالى إنما تعبدنا بقوله وقول رسول فقط؛ وأنه لا طاعة لأحد إلا فيما يوافق قول الله وقول رسوله فكيف يصح بعد ذلك ترك قول الرسول الواضح الجلي لقول غيره؟!
الصُّوَرُ الحديثة من صور البيع التي ترتبت على بيع الأجل مع زيادة
والآن نأتي إلى بيان كيفية التعامل الحديث في بيوع الأجل مع زيادة والمسمى ببيع الأقساط. أعني لنأت الآن لمعرفة كيف يتم التعامل الحديث في بيع الأجل مع زيادة وما الذي ينبني على القول بجواز الزيادة في مقابل التأجيل؟
والجواب: أن هناك أربع صور رئيسية للتعامل مع بيع الأجل وهي كما يلي:
أولاً: التاجر يبيع نقداً وبالأقساط بنفسه لنفسه:
هناك الآن تجار يعرضون سلعتهم نقداً بثمن، ومؤجلاً بثمن أكثر حسب مدة التأجيل. فالسيارة مثلاً نقداً بثلاثة آلاف دينار ولسنة بثلاثة آلاف وثلاثمائة ولسنتين تضاعف الزيادة ولثلاث سنوات تضاعف الزيادة فتصبح نحو أربعة آلاف لثلاث سنوات وهكذا وحجم الزيادة غالباً هو حجم الفائدة الربوية المعمول بها في البنوك والمتعارف عليها في السوق. فالتاجر يطالب المشتري بفائدة الدين الذي بقي في ذمته ويحاسبه على هذا الأساس عند إبرام العقد. وهذه الصورة هي نفس الصورة القديمة التي شرحناها وبيناها فيما مضى من هذه الرسالة، غير إننا نحب أن نلفت النظر هنا إلى أمرين الأول هو أن الزيادة على التأجيل هي غالبا نفس الزيادة المعمول بها في البنوك. والثاني أن هذه الصورة الأولى هي الصورة البسيطة التي يشترك فيها البائع والمشتري فقط فالتاجر هنا يبيع لنفسه، وهو الذي يتقاضى الدين لنفسه، ولا يدخل طرفاً ثالثاً بعكس الصور التي ستأتي بعد هذه إن شاء الله وهذه الصورة لا شك في تحريمها بما سردناه آنفاً من أدلة.
ثانياً: بيع الدين التجاري بثمن حاضر:
يعمد كثير من التجار إلى بيع الديون (السندات والكمبيالات) التي على الناس إلى البنوك الربوية ويتقاضى في مقابلها نقداً حاضراً أقل. فيبيع مثلاً دينا بمائة دينار بتسعين دينار حاضرة وهذه المعاملة معروفة في البنوك باسم حسم الديون، وبعض التجار يتقاضى بنفسه الدين من الزبائن ثم يسدد للبنك في الأجل. وبعضهم الآخر يحول العميل المشتري إلى البنك ليسدد عنده. وعلى كل حال هذه معاملة ربوية جديدة تنبني على بيع الأجل مع زيادة وقد تولدت عنها وهي بيع الدين بنقد حاضر، ولا شك في عدم جواز بيع الدين بنقد حاضر، لأنه من باب بيع النقود بالنقود لأجل وهو أمر مجمع على تحريمه لقول صلى الله عليه وسلم [لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا هاء وهاء ولا تبيعوا غائباً بناجز] ومعنى هاء وهاء أي خذ وهات، والناجز هو الحاضر والغائب هو الدين المؤجل وهو ما يفعله الآن بعض التجار.
وبالرغم من أن المشتري في بعض الصور لا يكون داخلاً مباشرة في هذه المعاملة إذا كان يسدد إلى التاجر نفسه، وليس إلى الطرف الثالث وهو البنك. إلا أنه ولا شك مشارك بصورة أو بأخرى في نوع ثان من أنواع المعاملات الربوية وبذلك فإنه يلحقه إثم شرائه بالأجل مع زيادة وإثم مشاركته في بيع الدين بنقد حاضر وبذلك فهو يدخل في إثم مركب. شأنه شأن التاجر الذي يتعامل بهاتين المعاملتين حيث يزيد للأجل فيرتكب إثماً، ويبيع ديونه التي له بثمن حاضر فيرتكب إثماً ثانياً، وكل هذا في صفقة واحدة نسأل الله العفو والعافية.
ثالثاً: شركات التسهيلات التجارية:
يعمد بعض التجار إلي صورة أخرى من صور التعامل في بيع الأجل مع الزيادة وهي أن يحول العميل الذي يأتي إليه إذا كان العميل لا يملك مالاً حاضراً إلى شركة مما يسمى بشركات التسهيلات وهذه الشركات تقوم بتحرير سند المبايعة نيابة عن التجار وكتابة الدين على المشتري لنفسها ثم تحول المشتري لاستلام السلعة سيارة أو غيرها من البائع، ويسدد المشتري الدين بالأقساط إلى شركة التسهيلات، وحقيقة عمل شركات التسهيلات هي التمويل الربوي: الإقراض بفائدة معلومة هي قيمة الأجل ولكنها لا تقرض التاجر وإنما تقرض المشتري، وذلك بتسديد قيمة السلعة للتاجر فكأنها دفعت عنه نقداً، وتحصلت منه آجلاً، وربح شركة التسهيلات هي الفرق بين سعر النقد وسعر المؤجل (الأقساط) وهكذا نشأت هذه الشركات الربوية كوسيط طفيلي يساعد التاجر بأن يعطيه ثمن سلعته نقداً ويساعد المشتري بأن يدفع عنه القيمة النقدية للتاجر، ويستوفي منه بالأجل بزيادة الفوائد الربوية، من أجل التأخير والإمهال ولا يخفى أنه لا فرق في هذه المعاملة أن تحرر شركة التسهيلات وثيقة البيع للمشتري نيابة عن التجار، أو أن يحرر التاجر بنفسه وثيقة البيع ثم يحول المشتري إلى شركة التسهيلات لتسديد الأقساط التي عليه، فكلا الصورتين تؤديان نتيجة واحدة، وهي وجود الوسيط الربوي الذي يقوم بمهمة التحويل في مقابل فائدة الأجل وهنا أيضاً أحب أن أنبه إلى نقطتين:
الأولى: أنه لولا القول بجواز الفرق بين سعر الحاضر والمؤجل لما نشأت هذه الشركات الطفيلية الربوية.
الثاني: أن المشتري والبائع كليهما يرتكب الإثم مرتين: مرة للزيادة الربوية على سعر الأجل، ومرة أخرى لدفع الفائدة الربوية للوسيط الربوي الذي هو شركة التسهيلات، وكل ذلك في صفقة واحدة.
رابعاً: الحيلة الربوية المسماة ببيع المرابحة:
ولا شك أن أخبث صور التعامل التي انْبَتَتْ على بيع الأجل مع زيادة الصورة المسماة زوراً (ببيع المرابحة) والتي يجريها ويتعامل بها كثير من البنوك الإسلامية.
وحقيقة هذه المعاملة هي حقيقة المعاملة التي تجريها شركات التسهيلات مع بعض الفروق الشكلية التي لا تؤثر في الموضوع، وهي أن المشتري الذي لا يجد مالاً حاضراً لشراء سلعة يلجأ إلى البنك (الإسلامي) ليشتري له هذه السلعة، فيقوم البنك هذا بالاتفاق مع المشتري على أن يشتري له السلعة، ويأخذ منه ربحاً حسب مدة السداد، فإن كان سيسدد المشتري في سنة كانت عشرة بالمائة مثلاً وإن كان في سنتين تضاعف النسبة وهكذا هذا مع تحمل المشتري لكافة المصاريف من شحن وتأمين وخلافه، وهكذا يقوم البنك (الإسلامي) بتمويل الصفقة، ويشتريها لعملائه ويبيعها لهم، ويتقاضى هو الفرق بين سعر الحاضر (النقد) وسعر المؤجل (الأقساط)، ويقدر الفائدة حسب مدة السداد تماماً كما تقدر الفائدة الربوية.
وهكذا يصبح البنك (الإسلامي) وسيطاً ربوياً، يقرض المشتري بفائدة مع التظاهر أنه يشتري ويبيع، والحقيقة أنه يجري إجراءات شكلية لا معنى لها إلا التحايل والدوران على الأمر الشرعي، وعلى كل حال لبسط هذه القضية مقام آخر، والمهم هنا التنبيه على هذه الصورة الشريرة من صور التعامل التي نتجت عن القول بجواز الزيادة عن سعر الحاضر ولا شك أن أشق شيء في هذا الأمر على النفس، أن هذا يمارس باسم الإسلام والدِّين وهو في حقيقته لا يختلف عن الممارسة الربوية التي تمارسها شركات التسهيلات والبنوك الربوية. والخلاف هو في شكل التعامل فقط، وأما المضمون والنتيجة فواحدة.
ولا شك أنه لو كان المسلمون ملتزمين بالنص الشرعي والحكم الشرعي في أنه لا تجوز الزيادة في سعر الحاضر عن سعر النسيئة والأجل لما حدثت كل هذه الشرور التي أفسدت حياة الأمة الإسلامية، وخلطت البيع الذي أباحه الله بالربا الذي حرمه الله سبحانه وتعالى، وهذه إحدى معضلات الأمة الإسلامية الآن: اختلاط البيع بالربا، فالبيع الشرعي أصبح قليلاً محصوراً في جوانب ضيقة من حياة الأمة، وأما البيع الربوي حسب الصور التي بيناها آنفاً فهو البيع السائد الآن إلا من رحم الله سبحانه من تجار مخلصين من أهل الدين والفقه والاستقامة ممن يلتزمون ألا يبيعوا بسعر واحد نقدي، أو مؤجل، ومما لا يتعاملون مع شركات التسهيلات والبنوك الربوية الطفيلية سواء تسمت باسم الإسلام أو غيره، مما لا عمل لها إلا الإقراض للتجار والمشترين وتقاضي فائدة ربوية مضمونة وتطويل إجراءات زائفة لا معنى لها كقولهم أشتريها لك!! أشتريها وأبيعها لك؟! ونحو ذلك من حيل لا تخفى على الخالق سبحانه وتعالى ولم تعد تخفى على أحد اللهم إلا المكابرة واللجج.
وقد يقول قائل إنك شدّدت في هذه النقطة وأغلظت الكلام بما لم تغلظه في غيرها فلماذا؟
والجواب: أنني بذلك أبرأ إلى الله أولاً من هذه المعاملة والحيلة الشريرة، وذلك أن إتيان الحرام على وجهه أهون عند الله من التحايل عليه، ولقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه أهلك أمة من بني إسرائيل ومسخهم قردة وخنازير، لأنهم تحايلوا لصيد السمك الذي حرمه الله تبارك وتعالى عليهم يوم السبت فتحايلوا على ذلك بأن يحجزوا السمك في حفائر أو شباك يوم السبت، ولا يرفعونه من الماء إلا يوم الأحد!! وقالوا لم نخالف الأمر الشرعي ولن نصطد إلا يوم الأحد، وإني لأشهد أن حيلة البنوك الإسلامية فيما سموه ببيع المرابحة أشد كثيراً من حيلة بني إسرائيل من وجه كثيرة:
أولاً: أن حيلة بني إسرائيل كانت مجرد مخالفة لأمر شرعي بعدم الصيد، وليس فيها إلا عدواناً على الأمر الشرعي فقط فالسمك مال عام من مال الله، والصيد أصله مباح وأما حيلة البنوك الإسلامية فهي جريمة مركبة فالذي يراد الوصول إليه هو الربا وأصله حرام، وهذه الحيلة يراد التوصل بها إلى أكل أموال الناس بالباطل، فأكل أموال الناس بالباطل في نفسه جريمة بخلاف الصيد، فإنه في نفسه مباح.
ثانياً: أن بني إسرائيل عندما تحايلوا لصيد السمك يوم السبت نسبوا هذا الفعل إلى أنفسهم واجتهادهم، وأما البنوك الإسلامية الذين استحلوا هذا الفعل فإنهم حملوه لأئمة فضلاء من أئمة الدين منهم الإمام الشافعي، وأنا أشهد أن الشافعي -رضي الله عنه- بريء من كل ما يفعل اليوم باسمه، لأنه هو القائل إذا صح الحديث فهو مذهبي، وهو القائل: "مهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلاف ما قلت فالقول قول رسول الله وهو قولي"، ثم إني أشهد أن الشافعي لم يقل ما يفعل الآن باسمه، بل الذين أفتوا بذلك لفقوا بين شيء من قوله وشيء من قول بعض المالكية (فالشافعي أجاز أن يقول المشتري للبائع: إن اشتريت هذه السلعة قد اشتريها منك. وقال إن التزما بهذا الوعد بطل بيعهما لأنه يكون تواطئاً على أكل الربا. والبنوك الإسلامية تلزم العميل اليوم وتقاضيه، بل ويدفع عربونا مضموناً لا يأخذه إذا نكل عن وعده!! ومع ذلك ينسبون كل هذا الباطل للشافعي!!)، ومعلوم أن التلفيق حرام، بل لا يجوز التلفيق في أقوال رجل واحد، فكيف في أقوال رجلين متباعدين.
وعلى كل حال فهذه أراها جريمة ثانية تزيد الأمر بشاعة وهو تعليق هذه الحيلة الشريرة بإمام عظيم من أئمة الفقه.
ثالثاً: أن بني إسرائيل عندما نفذوا حيلتهم لم ينطل هذا على عموم الناس، وكانت حيلتهم منبوذة مشهورة، ولذلك قام الناصحون بنصحهم وتحذيرهم. وأما هذه الحيلة الربوية المسماة ببيع المرابحة فإن البلوى بها عمّت.
رابعاً: جاءت هذه الحيلة الشريرة والأمة مقبلة على تغير النظام الاقتصادي الربوي الرأسمالي إلى النظام الإسلامي الأخلاقي، فإذا بهذه الحيلة الشريرة تحول وجهة المسلمين من العمل المخلص الجاد في تطبيق الشريعة إلى عمل شيطاني إبليسي يخدم النظام الرأسمالي الغربي، لأنه يعمل نفس عمله في الربا ثم يضع على ما صنع غطاء شرعياً ولباساً إسلامياً، فبعد أن كان الربا ظاهراً ومعلوماً لكل أحد إذا بهؤلاء يموهونه ويزخرفونه ويلبسونه جبة وطيلساناً إسلامياً، وهكذا تحولت مسيرة البنوك الإسلامية، فبدلاً من أن تغير النظام الربوي إذا بها تصبح دعامة من دعائمه.
لهذه الأسباب وغيرها كثير قلت إن هذه الحيلة الربوية أشر كثيراً من حيلة بني إسرائيل وإذا كان الله قد حذرنا مما حصل ببني إسرائيل عندما تحايلوا على الأمر الشرعي، فإنني لأجل ذلك أسجل هنا براءتي إلى الله مما يصنع اليوم: (اللهم إني أبرأ إليك من ذلك. اللهم إنك أخذت العهد والميثاق على كل من حمل علماً أن يبلغه ولا يكتمه، ولعنت من لم يفعل ذلك حيث قلت {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم}، وقلت {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب لتبيينه للناس ولا تكتمونه}.
اللهم وفاء بهذا العهد وخروجاً من المسؤولية أسجل هذه الكلمات، اللهم إن أنزلت عقوبة من عندك فاستثنِ من يأمر بالحق فإنك قلت في شأن بني إسرائيل {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون} (الأعراف:165).
اللهم أهد هذه الأمة سبيل الرشاد وأخرجها برحمتك من الظلمات إلى النور).
القول الفصل في بيع الأجل
والآن نأتي بعد بيان كل ما احتج به من يبيحون بيع الأجل مع زيادة عن البيع النقدي إلى تفصيل القول وبيانه في حرمة هذا البيع فنقول والله المستعان.
قد دلت على حرمة هذا البيع وأنه نوع من أنواع الربا الأدلة الشرعية الآتية:
أولاً: النص الشرعي: قال صاحب منقي الأخبار:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا] (رواه أبو داود والحاكم وقال ناصر الدين في صحيح الجامع: حسن، وقد خرجته في أحاديث البيوع والأحاديث الصحيحة رقم 2326، والارواء 1295) وفي لفظ (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة) (قال ناصر الدين في صحيح الجامع: صحيح رواه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة وهو في تخريج المشكاة 2868، والارواء 1295 وأحاديث البيوع ورواه أيضا البزار عن ابن عمر).
2- وعن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة قال سماك هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنسأ كذا وهو بنقد بكذا وكذا. رواه أحمد، قال الشوكاني في شرح النيل: حديث ابن مسعود أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه.
وهذا الحديث واضح المعاني وقد اتفق عامة من شرح الحديث على ما فسره به سماك من أن المقصود من النهي عن بيعتين في بيعة أن يقول البائع هذه السلعة بسعر الحال (النقد) بكذا، وبالتأجيل (النساء) بكذا وكذا فهذه بيعتان في بيعة واحدة (ولأجل هذا قال ابن قتيبة في "غريب الحديث 1/18": ومن البيوع المنهي عنها شرطان في بيع، وهو ان يشتري الرجل السلعة إلى شهرين بدينارين والى ثلاثة أشهر ثلاثة دنانير وهو بمعنى بيعتين في بيعة) ولكن وقع الاختلاف بين أهل العلم عن سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقالوا إنما نهي للجهالة لأن المشتري لو قال: قبلت، لم يعلم أي صفقة يريد البائع النقد أم النساء. أما لو تفرقا على بيعة محددة فقال المشتري: قبلتها نقداً أو قبلتها لأجل كذا بكذا وكذا، فالبيع عندهم صحيح. وقد علمت أن هذا تفسير باطل للحديث لأسباب كثيرة منها:
(1) أن الجهالة هنا غير قادحة في البيع لأن المشتري مخير والبائع راضٍ بهذا الخيار فلو تفرقا دون أن يحددا بيعة من البيعتين (النقد أو النساء) فلا يقدح هذا لأنه لو قابله بعد ذلك فقال قبلت النساء أو قبلت النقد وأوفاه. كانت هناك جهالة قادحة في صحة البيع. ومعلوم أنه ليست كل جهالة تقدح في البيع ولذلك جاز بيع الصبرة من الطعام، والجوز واللوز والبطيخ في قشره ونحو ذلك من جهالة لا تضر. والجهالة هنا لا تضر، وبالتالي ليس النهي وارداً عنها هنا بتاتاً ويقيناً.
(2) أنه لو كان النهي هنا للجهالة فما فائدة قوله صلى الله عليه وسلم [فله أوكسهما أو الربا] وما موقع هذه العبارة. لا شك أن النهي إنما هو للزيادة التي يأخذها البائع على سعر الحاضر، فإما أن يبيع بالأوكس وهو الأقل وهو سعر الحاضر. وإما أن يأخذ الزيادة الربوية التي اشترطها للأجل. هذا وقد حاول بعض أهل العلم صرف هذا الحديث عن معناه وسياقه بوضع كل احتمالات قول النبي [من باع بيعتين في بيعة] فقالوا الحديث يحتمل معاني كثيرة منها:
هو أن يقول البائع: أبيعك بيتي هذا على أن تبيعني أرضك هذه قالوا فهذا بيعتان للأرض والبيت في بيعة واحدة. والجواب أن هذا وإن كان داخلاً في عموم الحديث إلا أن الأصل في هذا مشروع، وهو نوع من تبادل المنافع. والشرط في هذا البيع لا يبطله وليس هناك من السنة والآثار ما يشهد لبطلان مثل هذا البيع بل هناك ما يشهد لصحته. ثم إن تفسير الحديث بهذا يجعل قولهصلى الله عليه وسلم [فله أوكسهما أو الربا] لا معنى له بتاتاً. لأنه لا يوجد سعرين هنا أوكس وأعلى. وبالتالي فهذا التفسير ليس وارداً ولا يجوز تفسير الحديث به. ولو جاز تفسير الحديث به فإنه لا يلغي عموم الحديث.
وقالوا أيضاً: إن معاني [بيعتين في بيعة] أن يبيع الشخص الشيء الواحد مرتين: كأنه يبيعه إلى أجل فإذا حل الأجل ولم يكن عند المشتري مال للسداد قال: أبيعك إياه مرة ثانية إلى أجل. والجواب أن هذا ولا شك بيع باطل لأن البيع هنا قائم في المرة الأولى فإن أراد أن يبيعه مرة ثانية فإنما يبيعه الدراهم بالدراهم. أعني يبيعه الدين الذي له بدين آخر إلى أجل وهذا لا شك في تحريمه، ودخول هذه الصورة في عموم الحديث لا ينفي الصورة الأولى بل الصورة الأولى هي المقصودة حتماً لأنها الشائعة والعامة وأما هذه الصورة الثانية فنادرة بل شاذة بل لا يكاد أحد أن يفطن لها أو يتعامل بها.
وقالوا أيضاً: إن من معاني [بيعتين في بيعة] أن يبيع الشخص سلعة ما إلى أجل ثم يشتريها نفسها من المشتري نفسه بثمن أقل نقداً وهو ما يسمى ببيع العينة. وقد جاء نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا البيع في حديث ابن عمرو رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم] (رواه الإمام أحمد وأبو داود، قال الشوكاني: "أخرجه الطبراني وابن القطان وصححه وله طرق يشد بعضها بعضا". وخرجه ناصر الدين في الأحاديث الصحيحة رقم 11 وقال: "وهو حديث صحيح لمجموع طرقه"، وهو في صحيح الجامع برقم 416).
ولا شك أن هذا النوع من البيع بيع باطل، لأنه وسيلة إلى الربا، فيه آثار كثيرة عن الصحابة بتحريمه، وقد يدخل في عموم نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة ولكن قول الرسول صلى الله عليه وسلم [من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا] لا ينطبق على هذا البيع لأنه إذا باع السلعة ثم اشتراها بنفس ثمنها لا يصبح معنى لهذا البيع، وإنما كانت العينة وسيلة إلى الربا لأن البائع يبيع السلعة بسعر مرتفع إلى أجل ثم يشتريها ممن اشتراها منه بسعر أقل في الحال فكأنه داينه ألفاً (مثلاً) بألف وثلاثمائة إلى أجل. وإنما كان البيع والشراء في هذه الحالة إنما هو من باب الحيلة على الربا فلو أن البائع عاد واشترى ما باعه بنفس ثمنه لم يكن لفعله معنى ولا يمكن أن يكون هذا تفسيراً لقوله صلى الله عليه وسلم [فله أوكسهما أو الربا] ولو فرضنا أن هذه المعاملة داخل في عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة فإن ذلك لا يمنع دخول صور أخرى تحت عموم الحديث.
والخلاصة أن الصور الأربعة الفائتة هي تقريباً كل ما فسر به هذا الحديث. وإذا فرضنا جدلاً أن كل هذه التفاسير صحيحة فليس هناك ما يدعو إلى إخراج الصورة الأولى التي فسر السلف بها الحديث وهي القول بأن هذه السلعة نقداً بكذا ونساءً بكذا وكذا. بل هذه حتماً هي الصورة المرادة. ومعلوم أن العموم يبقى على عمومه ولا يجوز إخراج فرد من أفراد العام إلا بدليل. وليس هنا دليل يجيز لنا إخراج هذه الصورة أعني قول البائع (هذه السلعة نقداً بكذا وأقساطاً بكذا وكذا).
وهكذا يتحقق الآن أن الدليل الأول على تحريم هذا البيع هو النص الصحيح الجلي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال الله في شأنه {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال أيضاً {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
ثانياً: قول الصحابي الذي لا مخالف له:
الدليل الثاني على تحريم هذا البيع هو قول الصحابي الذي لا مخالف له ولا شك أن قول الصحابي الذي لا يخالف الحديث حجة. وقد أخذ بذلك عامة الفقهاء كما قال الإمام أبو حنيفة: "دعوا قولي لقول أصحاب رسول الله فإنهم أعلم بالتنزيل" فكيف إذا كان هذا الصحابي هو ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن. وابن مسعود عالم الأمة وفقيهها.
فقد روى عبد الرزاق في مسنده قال: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال: إذا استقمت بنقد وبعت بنقد فلا بأس به، وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا. إنما ذلك ورق، بورقٍ.
وهذا النص من ابن عباس في تحريم قول البائع هذه بمائة الآن وبمائة وعشر إلى سنة فإذا باعها بمائة الآن فهو جائز وأما إذا باعها بمائة وعشر إلى سنة فمعنى ذلك أنه داينه مائة دينار إلى أجل بمائة وعشر.
وقد اعتمد الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية على أثر ابن عباس هذا في تحريمه هذه المعاملة فقد قال في فتاويه: (إذا قال هذا يساوي الساعة كذا وكذا وأنا أبيعه بكذا أكثر منه إلى أجل فهذا ربا. كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: وإذا قومت نقداً وبعتها إلى أجل فتلك دراهم بدراهم) أ.هـ (الفتاوى ج39 ص306-307).
هذا ولا يؤثر عن أحد من الصحابة خلاف لابن عباس في هذه الفتوى بل هذا ما أفتى به عبدالله بن مسعود أيضاً وهو من فقهاء الصحابة فقد قال رضي الله عنه (صفقتان في صفقة ربا، أن يقول الرجل إذا كان بنقد فبكذا وإذا كان بنسيئة فبكذا) (قال ناصر الدين صحيح أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8/192/2) وساق إسناده. انظر إرواء الغليل ج5 ص146-147). أ.هـ
ثالثاً: القياس الصحيح:
القياس مصدر من مصادر التشريع، وقد اعتبره عامة العلماء والشريعة الحكيمة لا تفرق بين متماثلين، وكذلك لا تجمع بين مختلفين. وبيع الأجل بزيادة عن بيع الحاضر هو عين ربا النسيئة فربا النسيئة هو مداينة مال إلى أجل بزيادة معلومة. وكذلك قول البائع: هذه بألف الآن وبألف ومائة إلى سنة ما حقيقة ذلك؟ حقيقة إذا قال المشتري قبلتها إلى سنة أن البائع باع السلعة بألف ولما لم يكن عند المشتري هذه الألف نقداً فإنه أمهله لسداد هذا الألف سنة في مقابل أن يعطيه فائدة هي العشر. ومما يزيد الأمر وضوحاً أن تنظر اليوم إلى كيفية تعامل الناس بهذا البيع لتعلم أن نظرتهم إليه هي تماماً نظرتهم إلى الفائدة الربوية في مقابل الأجل. فالإعلانات التجارية تطالعك كل يوم: (هذه السيارة بدون فوائد لمدة سنة، وبالأقساط لثلاث وأربع سنوات). والمعنى إنك إن سددت في العام الأول لم تحسب عليك فائدة الدين. ثم ما معنى أن تكون الزيادة في بيع الأجل هي نفس الزيادة الربوية في القرض؟ وأن يحسب لك البائع الفوائد حسب السداد والأقساط فإن كان السداد في سنة كان المبلغ كذا. وإن كان في سنتين زادت النسبة وهكذا.
هل يعني كل ذلك إلا أن البائع ينظر إلى الأجل نظرة المرابي إلى الأجل، وأنه يشعر بأنه قد داينك مبلغاً وهو يريد فائدة هذا المبلغ من أجل المدة التي تتأخر فيها عن السداد وهل اقتران هذه الزيادة بالبيع يغير من الأمر شيئا؟ والبيع حلال ولا شك ولكنه يكون حراماً إذا كان وسيلة إلى الحرام. أو إذا اختلط به الحرام واقترن به. وهذا بيع مقترن بالربا ولا فرق بتاتاً بين أن يداينك التاجر مائة إلى سنة بمائة وعشر وأن يبيعك شيئاً بمائة الآن فإذا قلت له أسدد بعد سنة قال لك بمائة وعشر لأن حقيقة ذلك أنه داينك ثمن السلعة إلى سنة بزيادة العشر. ولهذا لم يجد الناس فرقاً بين أن يقوم التاجر بنفسه بهذه المداينة، وأن يقوم طرف ثالث بها كشركات التسهيلات والبنوك لأن هذه المؤسسات تسلف المشتري ثمن السلعة وتأخذ منه الزيادة. وهي إما أن تعطي التاجر نفسه ثمن السلعة نقداً، وتستوفي منه. أو أن تعطي المشتري نفسه ثم تستوفي منه. ولا فرق بين هذا وهذا. المهم أن الناس أصبحوا ينظرون إلى عمل هذه المؤسسات الربوية على أنه أمر طبيعي جداً لأنه مكمل عندهم لصفقة البيع. ولأن هذا من لوازم بيع الأجل ومن نتائجه. وبالتالي فعندهم الفائدة التي تتقاضاها البنوك وشركات التسهيلات هي نفس الزيادة التي يتقاضاها التاجر. وبذلك سهل عليهم أن يسددوا للتاجر، أو لهذه المؤسسات الربوية، لأن الأمر عندهم أصبح واحداً. فهم سيسددون زيادة من أجل الأجل وسواء سددوها للتاجر الذي اشتروا منه، أو سددوها للبنك أو شركة التسهيلات التي يحولهم التاجر عليها. وبذلك أصبح الربا عنصراً أساسياً من عناصر البيع!! فهل بعد ذلك من فساد في الطبع والأخلاق والمعاملات ومن خلط للحرام بالحلال. ومن أجل ذلك قلنا في هذه الفقرة إن نظرة الناس وتعاملهم إلى الزيادة التي يأخذها التاجر في مقابل الأجل هو نفس نظرتهم إلى الزيادة (الفائدة) على الدين. وهذا ما لا ينبغي أن يتوقف عنده أي منصفٍ من أن هذه الزيادة ما هي إلا زيادة ربوية. بل هي عين الربا. وصدق صلى الله عليه وسلم [فله أوكسهما أو الربا] وهكذا يتوافق النص الصحيح مع العقل الصريح ويعضد القياس الجلي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: سد الذرائع:
سد الذرائع أصل عظيم من أصول الدين ومعناه: ترك الأمر المباح الذي يتأتى من ورائه شر أعظم مما فيه من نفع. وهذا الأصل مقتضى العقل والمنطق وهو ما جاءت به الشريعة الحكيمة. كما حرم الله سب آلهة المشركين حتى لا يدعو ذلك أهل الشرك أن يسبوا الله سبحانه وتعالى. كما قال جل وعلا {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم}.
وكذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو حتى لا ينالونه. ومثل هذه الأمور في نفسها مباحة وطيبة ولكن لما كانت تؤدي إلى شر أكبر جاءت الشريعة بالنهي عنها.
ولهذا الأصل أمثلة لا تحصى كثيرة كنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية والدخول على النساء، لما قد يؤدي إلى الوقوع في الحرام. ونهيه صلى الله عليه وسلم عن قبول الهدية من المدين لما قد يجر إلى الربا علما بأن الهدية في نفسها طيبة. ونهيه صلى الله عليه وسلم عن شراء الصدقة ممن تصدق بها عليه، حتى ولو ذهب ليبيعها في السوق. ونحو ذلك كثير جداً. وقد جرى الصحابة على ذلك رضوان الله عليهم كما منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الولاة من التجارة خشية أن يستغلوا سلطانهم علما أن التجارة في نفسها مباحة، وكما منع كبار الصحابة من السفر خارج المدينة وذهابهم إلى الأمصار، حتى يُعَظَّمونَ ويكون لكل منهم تبع، علماً أن في خروجهم فوائد غير مجهولة كنشر العلم. وكذلك ما سنه الأصحاب في منع الصديق وعمر وعثمان من أن يخرجوا بأنفسهم إلى الغزو. لما قد يؤدي هذا إلى فقدان خليفة المسلمين علماً أن الغزو في نفسه حق وواجب، ولهذا أمثلة كثيرة والمقصود هنا بيان أن سد الذرائع أصل عظيم من أصول الدين، وجاء به القرآن والسنة وعمل به الصحابة، واعتمده عامة الفقهاء بل والعقلاء، فأي عاقل يرى أن هناك أمر ما سيأتيه منه شر أضعاف أضعاف ما فيه من خير ومصلحة لا شك أنه يجب عليه تركه، ولو كان فيه هذا الخير لأنه ليس من المعقول أن يسعى إنسان فيحصل على منفعة قليلة ويجر على نفسه في سبيل ذلك عواقب وخيمة.
والآن وقد وضح هذا الأصل بحمد الله نعود فنقول لنفرض جدلاً أن هذا البيع حلالاً لا شبهة فيه. ونسأل ما الخير الذي يحققه لنا أخذ الزيادة في مقابل الأجل؟ أليست هذه الفائدة هي مجرد تعويض للبائع عن صبره على المشتري في السداد؟!! أليس هذا هو كل ما في هذه المعاملة من منافع؟ والآن لنأت إلى ما في هذه المعاملة من أضرار وشرور ومصائب:
أضرار البيع بالأجل
أ: فتح باب الربا على مصراعيه:
أكبر الشرور التي أنتجها هذا البيع هو فتح باب الربا على مصراعيه، فالتجار يحبون هذا البيع لأنه يجمع لهم بين مكاسب البيع وفوائد الربا. ومن لا يملك منهم (سيولة) نقدية أعني مالاً حاضراً يستعين بالبنوك الربوية وشركات التسهيلات التي تشتري منه الديون التي له على زبائنه وتعطيه مالاً حاضراً والمشتري الذي لا يجد مالاً حاضراً يفرح بالتقسيط، ويسارع إليه لأنه يحصل به على ما يريد بمقدم بسيط أو دون مقدم أحياناً. وبذلك يدخل الجميع إلى دائرة الربا، حيث تكتمل هذه الدائرة بالضرورة مع البنوك والمؤسسات الربوية التي تداين التاجر أو تداين المشتري وهكذا تتم الحلقة اللعينة. ويرتبط كل من التاجر والمشتري بالبنوك والمؤسسات الربوية، ويصبح الربا كما يراد له جزءاً من الاقتصاد بل ودعامة للاقتصاد، لأنه لا غنى للتاجر عنه مادام أن البيع العام والذي يرغبه الناس هو البيع الأجل. ومادام أنه ليس لدى كل تاجر من المال السائل ما يستطيع به أن يداين جمهور زبائنه.
وبهذا البيع نكون قد فتحنا باب الربا على مصراعيه، وجعلنا وظيفة البنوك والمؤسسات الربوية وظيفة أساسية بل ودعامة لا حيلة لنا في زحزحتها ولا تغير مسارها. وهذا هو الذي أراده اليهود الذي اختلقوا واخترعوا هذا النظام اللعين وذلك لربط العالم بعجلتهم، وجعل رؤوس أموالهم هي المهيمنة على حياة الناس، فلو لم يكن من فضيلة لتحريم هذا البيع إلا هذه لكان ذلك كافياً في إبطاله وتحريمه أعني أنه لو لم يكن من فضيلة لتحريم البيوع الآجال مع زيادة إلا قطع شريان الربا وتضيق الخناق على البنوك والمؤسسات الربوية لكان هذا وحده كافياً. فهذه أعظم وسيلة من الشر يجب استئصالها والقضاء عليها، مادام بيع الآجال مع زيادة حلالاً عند الناس فيستحيل إلغاء عمل البنوك الربوية، بل ولا تحويل مسارها ولا استبدال نظامها بنظام إسلامي لأن هذه الزيادة الربوية ستخلق بنفسها نوع تعامل للاستفادة منها. وهذا ما قامت عليه البنوك المسماة بالإسلامية فإنها كذلك اخترعت ما أسمته ببيع المرابحة لتستفيد من الفرق بين سعر النقد وسعر الأجل، فبدلاً من أن تداين بالربا كما تفعل البنوك الربوية الصريحة فإنها تشتري للزبون (العميل) بسعر النقد وتبيعه بسعر الأجل وتأخذ فرق السعر لنفسها وتسمي هذا مرابحة!! وما هو بمرابحة. ويعلم الله ويشهد الله أنه ما هو إلا حيلة ربوية أشد خبثاً من فعل البنوك الربوية الصريحة.
ب: تسهيل الدين وإيقاع الناس فيه:
الباب الثاني من أبواب الشر الذي يفتحه هذا البيع هو تسهيل التداين ومعلوم أن الدين مكروه في الإسلام، ولو مات إنسان مديناً فإنه لا يغفر له ما لم يسد دينه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على من مات وعليه دين، كما جاء في حديث سلمة بن الأكوع قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بجنازة فقالوا: يا رسول الله صل عليها قال: [هل ترك شيئاً؟] قالوا لا قال: [هل عليه دين؟] قالوا: ثلاثة دنانير. قال: [صلوا على صاحبكم!!] فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلي دينه، فصلى عليه) (رواه البخاري والأمام أحمد والنسائي).
وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم كان يسدد عن الميت من ماله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد أن وسع الله عليه كما روى جابر بن عبد الله قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُصلي على رجل مات عليه دين. فأتى بميت فسأل: [عليه دين؟]، قالوا: نعم. ديناران، قال: [صلوا على صاحبكم] فقال أبو قتادة: دينه عَلَيَّ يا رسول الله فصلي عليه. فلما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: [أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك ديناً فَعَلَيَّ، ومن ترك مالاً فلورثته] (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من خَلَّف مالاً أو حَقاً فلورثته، ومن خَلَّفَ كلاً أو ديناً فَكَلُّهُ إلي، ودينه عَلَيَّ] أ.هـ.
والكَلُّ: هو المصيبة. أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولى بنفسه فك الورثة من التبعات والشاهد في هذه الأحاديث تعظيم مسألة الدين، والتحذير الشديد منه، وحسبك في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم [يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين] (رواه مسلم وأحمد).
ومن شرور تسهيل بيع الأجل من قبل التجار جذب الناس إلى التعامل بالدين وتحميل أنفسهم حمالات قد لا يكونون في وضع يمكنهم من أدائها، وبالتالي تحمل الأفراد للديون ثم فوائد هذه الديون.
ج: حرمان الناس من فضيلة الإدخار والتعود على إهدار المال والبذخ:
من شرور هذا البيع كذلك تعويد الناس على البذخ والإسراف، وأن يتقلبوا ويتمتعوا ويستهلكوا ما لا تحتمله أوضاعهم المالية، وكثيراً ما يعيش الناس بواسطته في غير قدراتهم الحقيقية، فترى الشخص يركب سيارة فارهة غالية الثمن، ويتقلب على فراش وثير، وأثاث فاخر، ويقتني معظم ما أنتجته المصانع من آلات وأدوات الزينة والترفيه كالتلفاز والفيديو، والثلاجة والغسالة والطباخ.. الخ والحال أن كل ذلك أو عامته بالدين، ويظل عمره رازحاً تحت وطئته، ساعياً في سداده ملاحَقاً في معاشه وبهذه الطريقة حرم الناس من فضيلة طيبة وهي العزيمة وقوة الإرادة والتعفف عن أموال الناس حتى يجد الإنسان سداداً، ثم إن الشعوب التي تتعلم هذه الفضيلة يقوى اقتصادها وتزداد إمكانياتها وخاصة إذا عرفت هذه الشعوب كيف تستثمر ما ادخرت في مشاريع نافعة.. وأما هذه الشعوب (مخروقة الجيب) باسطة اليد كل البسط في الحلو المر وما يفيد وما لا يفيد، فإنه تظل شعوباً فقيرة محتاجة عالة على غيرها. والحال شاهد الآن في شعوبنا العربية التي لا تعرف إلا الاستهلاك والإسراف والبذخ، ومد اليد، وطلب المعونات وما ذلك في أغلبه من حاجة حقيقية وإنما لِلْعَبِّ الدائم من منتجات هذه الحضارة الزائفة، وقد سهل شياطين الاقتصاد الغربي ذلك لهذه الأمة عن طريق التداين، والبيع بالأقساط حيث يأخذ المشتري بمقدم قليل أو دون مقدم أحياناً، ثم يجر المشتري إلى عجلة الربا اللعينة ولا شك أننا نحتاج اليوم إلى التنفير من بيع الأجل وخاصة مع هذه الزيادة الربوية لما يؤدي ذلك، وقد أدى فعلاً إلى ربط اقتصاد أمتنا بعجلة الاقتصاد الغربي الربوي وبأن نظل شعوباً فقيرة مدينة تمد يدها دائماً.
ولو أن شعوبنا تعودت ألا تشتري إلا ونقودها في يدها لتحولنا إلى نمط آخر من الشعوب حيث يقوى اقتصادنا، ونعتمد على أنفسنا ويتوفر لدينا من المال ما نستطيع أن نقيم به حياتنا.
فهل بعد ذلك يمانع عاقل في أنه يجب علينا التنفير من بيع الأجل كله حتى ولو لم يكن فيه هذه الزيادة الربوية ولا أقول إنه بدون زيادة حرام بل مباح، وإنما ألفت النظر هنا إلى خطورة القول بالإباحة المطلقة هكذا دون مراعاة المفاسد المترتبة عليه وإذا احتج أحد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفى ودرعه مرهونة عند يهودي... أحب أن أذكره أن الرسول فعل ذلك في ثلاثين صاعاً من الشعير طعاماً لأهل بيته فقد كان من باب الضرورات ولم يكن ذلك في سبيل غرفة نوم ذات طراز جديد أو نحو ذلك مما يتسابق فيه الناس ديناً وإلى أجل فكيف وإذا كان ذلك مع الزيادة الربوية؟!
وختاماً.
قد يقول قائل بعد كل هذا العرض، وماذا بقى من الحلال؟
والجواب: أن الحلال واسع جداً وهو الذي رتب الله عليه الخير كله والبركة. وأما الربا فإن الله يمحقه، ويتوعد فاعله بحرب منه سبحانه وتعالى، وكل الذي حذرنا منه إخواننا في هذه الرسالة ألا يجعلوا للسلعة سعرين سعراً للنقد وسعراً للأجل والتاجر المسلم الطيب هو الذي يبيع بسعر واحد فإن كان مع المشتري نقد دفعه، وإن لم يكن معه فإما أن يصبر حتى يوجد عنده وهذا أفضل من تحمل الدين، لما فيه من النهي والوعيد الشديد، فإن الله يغفر الذنوب إلا الدين، وهو من أسباب عذاب القبر، وإما أن يمهله التاجر حتى يجد سداداً دون أن يزيد عليه هذه الزيادة الربوية من أجل الأجل. وبهذا تعظم الأخوة وتزداد البركة. وقد شاهدنا بأعيننا أن التاجر الذي يتعامل بهذه المعاملة الطيبة فلا يزيد على إخوانه المسلمين من أجل الأجل يبارك الله في تجارته وتنمو أمواله، فكيف إذا أمهل وتجاوز ولا شك أن هذا أحرى بأن يتجاوز الله عنه في الآخرة، وبهذا ينشأ المجتمع المسلم المتراحم المتواصل لا المجتمع الذي يقوم على المنفعة والفائدة والربا.
والحمد لله رب العالمين
المصادر
عبدالرحمن عبدالخالق
الكويت في الأربعاء 5 من ذي الحجة 1405هـ
الموافــــــق 21 من أغسطس 1985م