الحطيئة-الشاعر الحاقد الناقم
الحطيئة:هو جرول بن أوس، من بنى قطيعة بن عبس.
ولقّب الحطيئة لقصره وقربه من الأرض .
ويكنى الحطيئة أبا مليكة، وكان راوية زهير.
والحطيئة جاهلىّ إسلامىّ، ولا أراه أسلم إلّا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّى لم أسمع له بذكر فيمن وفد عليه من وفود العرب.
إلّا أنّى وجدت الحطيئة يقول فى أوّل خلافة أبى بكر رضى الله عنه حين ارتدّت العرب :
أطعنا رسول الله إذ كان حاضرا
فيا لهفتى ما بال دين أبى بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده
فتلك، وبيت الله، قاصمة الظّهر
وقد يجوز أن يكون أراد بقوله «أطعنا رسول الله» قومه أو العرب، وكيف ما كان فإنّه كان رقيق الإسلام، لئيم الطبع
ومن المشهور عنه أنّه قيل له حين حضرته الوفاة: أوص يا أبا مليكة، فقال: مالى للذكورمن ولدى دون الإناث، فقالوا: إنّ الله لم يأمر بهذا، فقال: لكنّى آمر به ثم قال: ويل للشّعر من الرّواة السّوء،
وقيل له:أوص للمساكين بشىء، فقال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا، فإنّها تجارة لن تبور
وقيل له: أعتق عبدك يسارا، فقال: اشهدوا أنه ما بقى عبدىّ
وقيل له: فلان اليتيم ما توصى له بشىء ؟ فقال أوصى بأن تأكلوا ماله وتنيكوا أمّه قالوا: فليس إلّا هذا؟! قال: احملونى على حمار، فإنّه لم يمت عليه كريم، لعّلى أنجو
ثم تمثّل:
لكلّ جديد لذّة غير أنّنى
رأيت جديد الموت غير لذيذ
له خبطة فى الخلق ليست بسكّر
ولا طعم راح يشتهى ونبيذ
ومات مكانه.
الحطيئة يهجو أمه
وكان هجا أمّه وأباه ونفسه، فقال فى أمّه:
تنحّى فاقعدى منّى بعيدا
أراح الله منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاء منى
ولكن لا إخالك تعقلينا
أغربالا إذا استودعت سرّا
وكانونا على المتحدّثينا
جزاك الله شرّا من عجوز
ولقّاك العقوق من البنينا
حياتك ما علمت حياة سوء
وموتك قد يسرّ الصّالحينا
الحطيئة يهجو أبيه:
لحاك الله ثم لحاك حقّا
أبا ولحاك من عمّ وخال
فنعم الشّيخ أنت لدى المخازى
وبئس الشّيخ أنت لدى المعالى
جمعت اللّؤم، لا حيّاك ربّى،
وأبواب السّفاهة والضّلال
الحطيئة يهجو نفسه
أبت شفتاى اليوم إلّا تكلّما
بسوء، فما أدرى لمن أنا قائله
أرى لى وجها شوّه الله خلقه
فقبّح من وجه وقبّح حامله
وقال عبد الرحمن بن أبى بكرة: رأيت الحطيئة بذات عرق ، فقلت له: يا أبا مليكة، أىّ الناس أشعر؟ فأخرج لسانا دقيقا كأنّه لسان حيّة، فقال: هذا إذا طمع.
ودخل على عتيبة بن النّهّاس العجلىّ فى عباءة، فلم يعرفه عتيبة، ولم يسلّم عليه، فقال: أعطنى، فقال له عتيبة: ما أنا فى عمل فأعطيك من غدده، وما فى مالى فضل عن قومى. فانصرف الحطيئة، فقال له رجل من قومه: عرّضتنا للشرّ، هذا الحطيئة! قال: ردّوه، فردّوه، فقال له عتيبة:
إنّك لم تسلّم تسليم أهل الإسلام، ولا استأنست استئناس الجار، ولا رحّبت ترحيب ابن العمّ، وكتمتنا نفسك كأنّك كنت معتلّا! قال: هو ذاك، قال:
اجلس فلك عندنا ما تحبّ، فجلس ، ثم سأله. من أشعر العرب؟ فقال:
الذى يقول
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتّق الشّتم يشتم
يعنى زهيرا ، قال: ثم من؟ قال: الذى يقول:
من يسأل الناس يحرموه
وسائل الله لا يخيب
يعنى عبيدا، قال: ثمّ من؟ قال: أنا، قال عتيبة لغلامه: اذهب به إلى السّوق فلا يشيرنّ إلى شىء ولا يسومنّ به إلّا اشتريته له، فانطلق به الغلام، فعرض عليه اليمنة والخزّ وبياض مصر والمروىّ، فلم يرد ذلك، وأشار إلى الأكسية والكرابيس الغلاظ والعباء، فاشترى له منها بمائتى درهم، واشترى له قطفا، وأوقر له راحلة من تمر وراحلة من برّ، ثم قال له: حسبك، فقال له الغلام: إنّه قد أمرنى أن أبسط يدى لك بالنفقة ولا أجعل لك علّة، فقال:
لا حاجة لقومى فى أن تكون لهذا عليهم يد أعظم من هذه، فانصرف الغلام إلى عتيبة فأخبره بذلك، وقال الحطيئة:
سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا
فسيّان لا ذمّ عليك ولا حمد
وأنت امرؤ لا الجود منك سجيّة
فتعطى، وقد يعدى على النّائل الوجد
الحطيئة في مجلس سعيد بن العاص
وأتى الحطيئة مجلس سعيد بن العاص، وهو على المدينة يعشّى الناس، فلمّا فرغ الناس من طعامهم وخفّ من عنده، نظر فإذا رجل قاعد على البساط قبيح الوجه كبير السنّ سيّئ الهيئة، وجاء الشّرط ليقيموه، فقال سعيد: دعوه، وخاضوا فى أحاديث العرب وأشعارهم، وهم لا يعرفونه، فقال لهم الحطيئة: ما أصبتم جيّد الشعر، قال له سعيد: وعندك من ذلك علم؟ قالقال: نعم، قال: فمن أشعر الناس؟ قال: الذى يقول:
لا أعدّ الإقتار عدما ولكن
فقد من قد رزئته الإعدام
يعنى أبا دؤاد قال: ثم من؟ قال: الذى يقول:
أفلح بما شئت فقد يبلغ بال
ضّعف وقد يخدع الأريب
قال: ثم من؟ قال: فحسبك والله بى عند رغبة أو رهبة، إذا رفعت إحدى رجلىّ على الأخرى ثم عويت عواء الفصيل فى إثر القوافى ، قال:
ومن أنت؟ قال: أنا الحطيئة، فرحّب به سعيد، وقال له: قد أسأت فى كتمانك إيّانا نفسك منذ الليلة، وقد علمت شوقنا إليك وإلى حديثك، (ومحبّتنا لك، وأكرمه وأحسن إليه، فقال :
لعمرى لقد أضحى على الأمر سائس
بصير بما ضرّ العدوّ أريب
سعيد، فلا يغررك خفّة لحمه
تخدّد عنه اللّحم فهّو صليب
إذا غبت عنّا غاب عنّا ربيعنا
ونسقى الغمام الغرّ حين تؤوب
فنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره
إذا الرّيح هبّت والمكان جديب
ومرّ الحطيئة بالنّضّاح بن أشيم الكلبىّ ومعه بناته، فقال له النضّاح:
إنّ لنا جدة ولك علينا كرامة، فمرنا بما تحبّ نأته، وانهنا عمّا شئت تكرهه نجتنبه ، فقال: وريت زبك نادى ، أنا أغير الناس قلبا، وأشعر الناس لسانا، فانه بنيك أن يسمعوا بناتى الغناء: فإنّ الغناء رقية الزّنا،
وكان للنضّاح سبعة بنين، فقال له: لا تسمع غناء رجل منهم ما كنت عندنا، ونهى بنيه أن يمرّوا ببابه، فأقام عنده سنة، فلمّا أراد أن يرحل قال للنضّاح: زوّج بعض بنيك بعض بناتى، فقال النضّاح لابنه كعب ذلك، فقال كعب: لو عرضها علىّ بشسع نعل ما أردتها! قال: ولم، قال: أكره لسانه . وكان فى ولد النضّاح الغناء، منهم زمام بن خطام بن النضّاح، كان أجود الناس غناء بدويّا، وفيه يقول الصّمّة القشيرىّ:
دعوت زماما للهوى فأجابنى
وأىّ فتى للهو بعد زمام
وكان الحطيئة جاور الزّبرقان بن بدر، فلم يحمد جواره، فتحوّل عنه إلى بغيض، فأكرم جواره، فقال يهجو الزبرقان ويمدح بغيضا:
ما كان ذنب بغيض أن رأى رجلا
ذا حاجة عاش فى مستوعر شاس
جارا لقوم أطالوا هون منزله
وغادروه مقيما بين أرماس
ملّوا قراه وهرّته كلابهم
وجرّحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسى
عمر بن الخطاب يحبس الحطيئة
فاستعدى عليه الزبرقان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وأنشده آخر الأبيات ، فقال له عمر: ما أعلمه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا؟! قال:إنّه لا يكون فى الهجاء أشدّ من هذا ، ثم أرسل إلى حسّان بن ثابت، فسأله عن ذلك، فقال: لم يهجه ولكن سلح عليه فحبسه عمر، وقال: يا خبيث لأشغلنّك عن أعراض المسلمين، فقال وهو محبوس :
ماذا أردت لأفراخ بذى مرخ
حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم فى قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
فرقّ له عمر وخلّى سبيله، وأخذ عليه ألّا يهجو أحدا من المسلمين.
وممّا سبق إليه فأخذ منه قوله:
عوازب لم تسمع نبوح مقامة
ولم تحتلب إلّا نهارا ضجورها
أخذه ابن مقبل فقال:
عوازب لم تسمع نبوح مقامة
ولم تر نارا تمّ حول مجرّم
المصادر
الشعر والشعراء
ابن قتيبة