لبيد بن ربيعة-الشاعر المخضرم
لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العامرىّ. وكان يقال لأبيه ربيع المقترين لسخائه.
وقتلت بنو أسد لبيد بن ربيعة فى حرب بينهم وبين قومه.
ويقال أن منقذ بن طريف الأسدىّ هو الذي قتل لبيد بن ربيعة .
ويقال قتله صامت بن الأفقم، من بنى الصّيداء، يقال ضربه خالد بن نضلة وتممّ عليه هذا. وأدرك بثأره عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب أخوه، وذلك أنّه قتل قاتله .
ويكنى لبيد بن ربيعة أبا عقيل. وكان من شعراء الجاهليّة وفرسانهم.
وكان الحارث بن أبى شمر الغسّانىّ، وهو الأعرج، وجّه إلى المنذر بن ماء السماء مائة فارس وأمّره عليهم. فصاروا إلى عسكر المنذر، وأظهروا أنّهم أتوه داخلين فى طاعته، فلما تمكّنوا منه قتلوه وركبوا خيلهم، فقتل أكثرهم ونجا لبيد، حتّى أتى ملك غسّان فأخبره الخبر، فحمل الغسّانيّون على عسكر المنذر فهزموهم، وهو يوم حليمة. وكانت حليمة بنت ملك غسّان، وكانت طيّبت هؤلاء الفتيان حين توجّهوا، وألبستهم الأكفان والدّروع وبرانس الإضريج .
وأدرك لبيد الإسلام، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وفد بنى كلاب، فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم. ثم قدم لبيد الكوفة وبنوه، فرجع بنوه إلى البادية بعد ذلك ، فأقام لبيد إلى أن مات بها، فدفن فى صحراء بنى جعفر بن كلاب. ويقال إنّ وفاته كانت فى أوّل خلافة معاوية، وأنه مات وهو ابن مائة وسبع وخمسين سنة.
ولم يقل فى الإسلام إلا بيتا واحدا. واختلف فى البيت، قال أبو اليقظان: هو:
الحمد لله إذ لم يأتنى أجلى
حتّى كسانى من الإسلام سربالا
وقال غيره: بل هو قوله:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه
والمرء يصلحه الجليس الصالح
وقال له عمر بن الخطّاب رضى الله عنه: أنشدنى من شعرك ، فقرأ سورة البقرة، وقال: ما كنت لأقول شعرا بعد إذ علّمنى الله سورةالبقرة وآل عمران، فزاده عمر فى عطائه خمس مائة درهم، وكان ألفين. فلمّا كان فى زمن معاوية قال له معاوية: هذان الفودان فما بال العلاوة؟ يعنى بالفودين الألفين، وبالعلاوة الخمس مائة، وأراد أن يحطّه إيّاها، فقال: أموت الآن وتبقى لك العلاوة والفودان! فرقّ له معاوية وترك عطاءه على حاله، فمات بعد ذلك بيسير.
وكان لبيد آلى فى الجاهليّة ألّا تهبّ الصّبا إلّا أطعم الناس حتّى تسكن، وألزمه نفسه فى إسلامه، فخطب الوليد بن عقبة الناس بالكوفة يوم صبا، وقال: إن أخاكم لبيدا آلى ألا تهبّ له الصّبا إلّا أطعم الناس حتّى تسكن، وهذا اليوم من أيّامه، فأعينوه وأنا أوّل من أعانه. ونزل فبعث إليه بمائة بكرة، وكتب إليه:
أرى الجزّار يشحذ شفرتيه
إذا هبّت رياح أبى عقيل
أشمّ الأنف أصيد عامرىّ
طويل الباع كالسّيف الصّقيل
وفى ابن الجعفرىّ بحلفتيه
على العلّات والمال القليل
بنحر الكوم إذ سحبت عليه
ذيول صبا تجاوب بالأصيل
فلما أتاه الشعر قال لابنته: أجيبيه فقد رأيتنى وما أعيا بجواب شاعر، فقالت:
إذا هبّت رياح أبى عقيل
دعونا عند هبّتها الوليدا
أشمّ الأنف أصيد عبشميّا
أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأنّ ركبا
عليها من بنى حام قعودا
أبا وهب حزاك الله خيرا
نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد إنّ الكريم له معاد
وظنّى يا ابن أروى أن تعودا
فقال لها لبيد: أحسنت لولا أنّك استطعمتيه، قالت: إنه ملك وليس بسوقة، ولا بأس باستطعام الملوك .
وملاعب الأسنّة هو عمّ لبيد، واسمه عامر بن مالك، وسمّى ملاعب الأسنّة لقول أوس بن حجر:
ولاعب أطراف الأسنّة عامر
فراح له حظّ الكتيبة أجمع
وكان ملاعب الأسنّة أخذ أربعين مرباعا فى الجاهليّة، ولمّا كبر عامر وأهتر تنازع عامر بن الطّفيل وعلقمة بن علاثة الجعفريّان فى الرئاسة، حتّى تنافرا إلى هرم بن قطبة بن سيّار الفزارىّ .
وأربد بن قيس الذى أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم غادرا هو أخو لبيد لأمه، وكان
قدم عليه مع عامر بن الطّفيل، فدعا الله عليه، فأصابته بعد منصرفه صاعقة فأحرقته، ففيه قال لبيد:
أخشى على أربد الحتوف ولا
أرهب نوء السّماك والأسد
فجّعنى الرّعد والصّواعق بال
فارس الكريهة النّجد
ويقال فيه نزلت: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ
وفيه يقول، وهو من جيّد شعره :
بلينا وما تبلى النّجوم الطّوالع
وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وقد كنت فى أكناف جار مضنّة
ففارقنى جار بأربد نافع
فلا جزع إن فرّق الدّهر بيننا
فكلّ فتى يوما به الدّهر فاجع
وما الناس إلّا كالدّيار وأهلها
بها يوم حلّوها وغدوا بلاقع
وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وما البرّ إلّا مضمرات من التّقى
وما المال إلّا معمرات ودائع
وما المال والأهلون إلّا ودائع
ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع
وما الناس إلّا عاملان. فعامل
يتبّر ما يبنى، وآخر رافع
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه
ومنهم شقىّ بالمعيشة قانع
أليس ورائى، إن تراخت منيّتى،
لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
أخبّر أخبار القرون الّتى مضت
أدبّ كأنى كلّما قمت راكع
فأصبحت مثل السّيف أخلق جفنه
تقادم عهد القين والنّصل قاطع
فلا تبعدن. إنّ المنيّة موعد
علينا، فدان للطّلوع وطالع
أعاذل ما يدريك، إلّا تظنّيا،
إذا رحل السّفّار من هو راجع
أتجزع ممّا أحدث الدّهر للفتى
وأىّ كريم لم تصبه القوارع
لعمرك ما تدرى الضّوارب بالحصى
ولا زاجرات الطّير ما الله صانع
ومما يستجاد له قوله أيضا:
ألا كلّ شىء، ما خلا الله، باطل
وكلّ نعيم. لا محالة، زائل
إذا المرء أسرى ليلة ظنّ أنّه
قضى عملا، والمرء ما عاش آمل
حبائله مبثوثة بسبيله
ويفنى إذا ما أخطأته الحبائل
فقولا له، إن كان يقسم أمره:
ألمّا يعظك الدّهر؟ أمّك هابل
فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب
لعلّك تهديك القرون الأوائل
فإن لم تجد من دون عدنان والدا
ودون معدّ فلتزعك العواذل
وكلّ امرئ يوما سيعلم سعيه
إذا كشفت عند الإله المحاصل
وهذا البيت الآخر يدلّ على أنه قيل فى الإسلام، وهو شبيه بقول الله تبارك وتعالى وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ
أو كان لبيد قبل إسلامه يؤمن بالبعث والحساب، ولعلّ البيت منحول .
وممّا يستجاد له قوله:
فاقطع لبانة من تعرّض وصله
ولخير واصل خلّة صرّامها
يقول: اقطع لبانتك ممّن لم يستقم لك وصله، فإنّ أحسن الناس وصلا أحسنهم وضعا للقطيعة فى موضعها.
ويستجاد له قوله:
واكذب النّفس إذا حدّثتها
إنّ صدق النّفس يزرى بالأمل
يقول : اكذب النفس أن تعدها الخبر وتمنّيها إيّاه، وإذا صدقها فقال لها مصيرك إلى الهلكة والزوال أزرى ذلك بأمله. ثم قال:
غير أنّ لا تكذبنها فى التّقى
واخزها بالبرّ لله الأجل
قول «اخزها» : سسها .
وممّا يعاب له من هذه القصيدة
ومقام ضيّق فرّجته
بمقامى ولسانى وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله
زلّ عن مثل مقامى وزحل
وقالوا: ليس للفيّال من الخطابة والبيان، ولا من القوّة، ما يجعله مثلا لنفسه! وإنما ذهب إلى أنّ الفيل أقوى البهائم، فظنّ أن فيّاله أقوى الناس! قال أبو محمد: وأنا أراه أراد بقوله:
لو يقوم الفيل أو فيّاله
مع فيّاله، فأقام أو مقام الواو.
ومما سبق إليه فأخذ منه قوله:
كعقر الهاجرىّ إذا بناء
بأشباه حذين على مثال
أخذه الطّرمّاح فقال:
حرجا كمجدل هاجرىّ لزّه
بذوات طبخ أطيمة لا تخمد
قدرت على مثل فهنّ توائم
شتّى يلائم بينهنّ القرمد
ذوات طبخ: يعنى الآجرّ. أطيمة: يعنى أتّون
ومن ذلك قوله وذكر نوقا
لها حجل قرّعت من رءوسه
لها فوقه ممّا تحلّب واشل
أخذه النابغة الجعدىّ فقال:
لها حجل قرع الرّؤوس تحلّبت
على هامة بالصّيف حتّى تموّرا
يعنى بالحجل: أولادها الصغار.
قال أبو محمّد: قال لى شيخ من أصحاب اللغة: اجتمعت الرواة على خطإ فى بيت لبيد، وهو قوله:
من كلّ محفوف يظلّ عصيّه
زوج عليه كلّة وقرامها
وقال: المحفوف: الهودج، والزّوج: النّمط، فكيف يظلّ النمط، وهو أسفل، العصىّ، وهى فوق؟ وإنّما كان ينبغى أن يرووه من كلّ محفوف يظلّ عصيّه زوجا ثم يرجع إلى المحفوف فيقول عليه كلّة وقرامها قال أبو محمّد: ولا أرى هذا إلّا غلطا منه، ولم تكن الرواة لتجتمع على هذه الرواية إلّا بأخذ عن العرب، وأراهم كانوا يلقون أيضا النمط فوق الأعواد ويلقونه
داخله، وأحسبنى قد رأيت هذا بعينه فى البادية.
ومما سبق إليه فأخذ منه قوله:
من المسبلين الرّيط لذّ كأنّما
تشرّب ضاحى حلده لون مذهب
أخذه الأخطل فقال:
لذّ تقبّله النّعيم كأنّما
مسحت ترائبه بماء مذهب
وقوله يذكر قوما ماتوا:
وإنّا وإخوانا لنا قد تتابعوا
لكالمغتدى والرائح المتهجّر
أخذه المحدث فقال :
سبقونا إلى الرّحي
ل وإنّا لبالأثر
ويستجاد له قوله فى النعمان، يصف نظره وشرّته :
وانتضلنا وابن سلمى قاعد
كعتيق الطّير يغضى ويجلّ
والهبانيق قيام، معهم
كلّ محجوم إذا صبّ همل
(تحسر الدّيباج عن أذرعهم
عند ذى تاج إذا قال فعل
فتولّوا فاترا مشيهم
كروايا الطّبع همّت بالوحل
ولبيد أوّل من شبّه الأباريق بالبطّ، فأخذ ذلك منه، قال يذكر الخمر:
تضمّن بيضا كالإوزّ ظروفها
إذا أتأقوا أعناقها والحواصلا
فأخذه بعض الضّبّيّين فقال:
ويوم كظلّ الرّمح قصّر طوله
دم الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر
كأنّ أباريق الشّمول عشيّة
إوزّ بأعلى الطّفّ عوج المناقر
وقال أبو الهندىّ :
سيغنى أبا الهندىّ عن وطب سالم
أباريق لم يعلق بها وضر الزّبد
مفدّمة قزّا كأنّ رقابها
رقاب بنات الماء تفزع للرّعد
وقال لبيد:
حتّى إذا ألقت يدا فى كافر
وأجنّ عورات الثغور ظلامها
وقال ثعلبة بن صعير:
فتذكّرا ثقلا رثيدا بعدما
ألقت ذكاء يمينها فى كافر
يعنى: الليل
المصادر
الشعر والشعراء
ابن قتيبة