من أخبارالصعاليك العرب
التعريف بالصعلكة في اللغة:
في لسان العرب: "الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري ولا اعتماد. وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك. قال حاتم الطائي:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى
فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر
أي عشنا زمانا.
وتصعلكت الإبل: خرجت أوبارها، وانجردت، وطرحتها.ورجل مصعلك الرأس: مدوره.ورجل مصعلك الرأس: صغيره، وأنشد:
يخيل في المرعى لهن بشخصه
مصعلك أعلى قلة الرأس نقنق
وقال شمر: المصعلك من الأسنمة: الذي كأنما حد رجت أعلاه حدرجة، كأنما صعلكت أسفله بيدك، ثم مطلته صعدا أي رفعته على تلك الدملكة، وتلك الاستدارة.
وقال الأصمعي في قول أبي دؤاد يصف خيلا:
قد تصعلكن في الربيع وقد قـ
ـرع جلد الفرائض الأقدام
قال: تصعلكن: دققن، وطار عفاؤها عنها، والفريضة: موضع قدم الفارس.
وقال شمر: تصعلكت الإبل إذا دقت قوائمها من السمن، وصعلكها البقل وصعلك الثريدة: جعل لها رأسا، وقيل: رفع رأسها.
والتصعلك: الفقر.
وصعاليك العرب: ذؤبانها. وكان عروة بن الورد يسمى عروة الصعاليك؛ لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنم".
من هذا النص اللغوي الذي سجله ابن منظور في لسان العرب، والذي سجل مثله غيره من علماء اللغة في معاجمهم، نستطيع أن نتبين أصلا عاما للمادة تشترك فيه معانيها المختلفة، وتدور حوله، وهو -عندي- الضمور والانجراد. ونستطيع في سهولة ويسر أن نرد كل معاني المادة إلى هذا الأصل العام:
فالإبل تتصعلك إذا انجردت أوبارها وطرحتها.
والخيل تتصعلك إذا دقت وطار عفاؤها عنها.
والبقل يصعلك الإبل أي يسمنها، وهذا السمن يجعلها تطرح أوبارها وتتجرد منها.
والمصعلك من الأسنمة الذي يبدو كأنما فتلت أعلاه وأضمرته.
وهو يصعلك الثريدة أي يجعل لها رأسا، أو يرفع رأسها، كأنها أضمر أعلاها.
ومن مصعلك الرأس أي صغيرة وضامرة.
وهو يتصعلك أي يفتقر كأنما تجرد من ماله، وبدأ ضامرا بين الناس.
فالصعلكة إذن -في مفهومها اللغوي- الفقر الذي يجرد الإنسان من ماله، ويظهره ضامرا هزيلا بين أولئك الأغنياء المترفين الذين أتخمهم المال وسمنهم.
ولكن يبدو أن هذا المعنى لا يعبر عن المفهوم اللغوي للكلمة تعبيرا دقيقا كاملا، ولهذا نريد أن نقف وقفة أخرى عند تلك الزيادة التي أضافها الأزهري إلى هذا المعنى اللغوي، وهي قوله "ولا اعتماد"، لنرى ماذا يستفيد المعنى منها؟ وإلى أي مدى تحدد هذه المعنى وتكمله؟
والمعنى اللغوي لهذه العبارات واضح، فاعتمد على الشيء: توكأ أو اتكأ عليه، واعتمد عليه في كذا: اتكل عليه. وعلى هذا نستطيع أن نقول إن الصعلوك في اللغة هو الفقير الذي لا مال له يستعين به على أعباء الحياة، ولا اعتماد له على شيء أو أحد يتكئ عليه أو يتكل عليه ليشق طريقه فيها، ويعينه عليها، حتى يسلك سبيله كما يسلكه سائر البشر الذين يتعاونون على الحياة، ويواجهون مشكلاتها يدا واحدة.
أو هو -بعبارة أخرى- الفقير الذي يواجه الحياة وحيدا، وقد جردته من وسائل العيش فيها، وسلبته كل ما يستطيع أن يعتمد عليه في مواجهة مشكلاتها. فالمسألة إذن ليست فقرا فحسب، ولكنها فقر يغلق أبواب الحياة في وجه صاحبه، ويسد مسالكها أمامه.
هذا هو التعريف اللغوي للكلمة كما نراه في ضوء هذه المحاولة اللغوية لفهم المادة. ونريد -بعد هذا- أن نتتبع هذه المادة في الاستعمال الأدبي القديم في العصر الذي ندرسه لنرى كيف دارت فيه؟ وإلى أي مدى يطابق هذا الاستعمال معناها كما سجله علماء اللغة أو يختلف عنه؟2- في الاستعمال الأدبي:
تتردد هذه المادة في أخبار العصر الجاهلي وشعره بصورة واسعة، وتقابلنا كثيرا على ألسنة شعرائه ورواة أخباره، فنراها أحيانا تدور في هذه الدائرة اللغوية التي تحدثنا عنها، على نحو ما نرى في بيت حاتم الطائي الذي يتخذ منه اللغويون موضوعا للاستشهاد على المعنى اللغوي للكلمة، فالمقابلة في هذا البيت بين التصعلك والغنى تدل في وضوح لا لبس فيه على أنه يستعمل التصعلك في معنى الفقر، وهو استعمال يؤيده ذكر الفقر في البيت التالي مرادفا للتصعلك:
فما زادنا بغيا على ذي قرابة
غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
ونراها أحيانا أخرى ترد في بعض المواضع، ولكن مفهومها الذي يتفق مع السياق لا يتفق تماما مع مفهومها اللغوي.
فهذا عمرو بن براقة الهمداني يُغير على إبله وخيله رجل من مراد، فيذهب بها، فيأتي عمرو فيُغير على المرادي فيستاق كل شيء له، ويقول:
قول سليمى: لا تعرض لتلفة
وليلك عن ليل الصعاليك نائم
وكيف ينام الليل من جل ماله
حسام كلون الملح أبيض صارم
ألم تعلمي أن الصعاليك نومهم
قليل إذا نام الخلي المسالم
فمن الواضح أن جو القصة وسياق الأبيات لا يدلان على أن الصعاليك هنا هم الفقراء، وإلا فما معنى هذه النصيحة التي توجهها إلى الشاعر صاحبته بألا يعرض نفسه للتلف مع هؤلاء الصعاليك الذين ينام ليلة عن ليلهم؟ وما سر المقابلة بين قلة نومهم ونوم "الخلي المسالم"؟ وما دخل المسالمة التي يتحدث عنها الشاعر في حديث عن الفقر والغنى؟ من الواضح أن الصعاليك هنا ليسوا هم أولئك الفقراء المعدمين الذين يقنعون بفقرهم، أو يستجدون الناس ما يسدون به رمقهم، وإنما هم أولئك المشاغبون المغيرون أبناء الليل الذين يسهرون لياليهم في النهب والسلب والإغارة بينما ينعم الخليون المترفون المسالمون بالنوم والراحة والهدوء.
فالكلمة إذن قد خرجت من الدائرة اللغوية، دائرة الفقر، إلى دائرة أخرى أوسع منها هي دائرة الغزو والإغارة للنهب والسلب.
دائرة الغزو والإغارة للنهب والسلب.
وفي أخبار امرئ القيس أنه غزا بني أسد ثائرا بأبيه، "وقد جمع جموعا من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها". ونتهم أنفسنا بالسذاجة لو تصورنا أمرأ القيس وقد خرج لثأر أبيه الملك يجمع جموعا من فقراء العرب المعدمين، فما أهمية الفقر في معركة من معارك الثأر؟ وما الذي يحمل امرأ القيس على أن يجمع حوله جموعا من الفقراء ليغزو بهم بني أسد؟
من الواضح أن هؤلاء الفقراء الذي استعان بهم امرؤ القيس في إدراك ثأره لا بد أن تكون حياتهم الاجتماعية قد تطورت تطورا خاصا جعلهم يصلحون للقيام بتلك المهمة الضخمة التي طلبهم إليها، وهو تطور نحس شيئا من سماته ومظاهره في هذا الربط بينهم وبين الذؤبان، فلا بد أن هؤلاء الفقراء كان بيهم وبين الذئاب تشابه في أسلوب الحياة أو أسلوب العيش أو طبيعة الشخصية.
ويشبه هذا ما ورد في أخبار عدي بن زيد من أن النعمان بن المنذر حبسه حتى مات، فأراد ابنه زيد أن يثأر له من النعمان، فدبر مكيدة يوغر بها صدر كسرى عليه حتى يقتله، وترامى خبر المكيدة إلى سمع النعمان، ففر من كسرى ولجأ إلى قبائل العرب، ولكن أحدا لم يجرؤ على إجارته، فقال له سيد من بني شيبان في حديث طويل معه: "فامض إلى صاحبك، فإما أن صفح عنك فعدت ملكا عزيزا، وإما أن أصابك فالموت خير لك من أن يتلعب بك صعاليك العرب، ويتخطفك ذئابها، وتأكل مالك".
طوائف الصعاليك
فمن الواضح أن الصعاليك هنا ليسوا هم الفقراء، ولكنهم طوائف من قطاع الطرق كانوا منتشرين في أرجاء الجزيرة العربية، ينهبون من يلقونه في صحرائها الموحشة الرهيبة، ويتلعبون به، ويتخطفونه، ويأكلون ماله، على حد ألفاظ ذلك السيد العربي الذي كان -ولا شك- يعرف جيدا طبيعة الدور الذي يقوم به هؤلاء الصعاليك على مسرح البادية العربية، وهو دور تعبر عنه تعبيرا دقيقا هذه الألفاظ.
وإلى جانب هذا نلاحظ أن بعض المصادر العربية تذكر طائفة من الأسماء على أنهم "صعاليك العرب"، أو تقص أخبارا عن صعاليك بعض القبائل، أو تصف بعض الشعراء بأنهم من "صعاليك العرب"، بل نلاحظ أن صاحب الأغاني يقول في تقديمه للسليك بن السلكة: "وهو أحد صعاليك العرب وأخبارهم تذكر على تواليها هاهنا، إن شاء الله تعالى، في أشعار لهم يُغنى فيها، لتتصل أحاديثهم"، مما يشعر بأن هؤلاء الصعاليك كانوا يكونون طبقة متميزة من طبقات المجتمع الجاهلي جعلت أبا الفرج يحرص على أن يذكر أخبارهم على تواليها حتى تتصل أحاديثهم، على حد تعبيره.
وأظن أننا نستطيع بعد هذه الجولة أن نقف لنسجل أن مادة "صعلك" تدور في دائرتين: إحداهما "الدائرة اللغوية" التي تدل فيها على معنى الفقر، وما يتصل به من حرمان في الحياة، وضيق في أسباب العيش،
الدائرة الاجتماعية للصعاليك
والأخرى نستطيع أن نطلق عليها "الدائرة الاجتماعية"، وفيها نرى المادة تتطور لتدل على صفات خاصة تتصل بالوضع الاجتماعي للفرد في مجتمعه، وبالأسلوبالذي يسلكه في الحياة لتغيير هذا الوضع. وهذه الصفات هي بعض ما نحاول تبينه في هذا البحث.
ونتساءل بعد هذا: ألم يلتفت اللغويون إلى هذا المعنى الاجتماعي؟ ونعود مرة أخرى إلى النصوص اللغوية نستفتيها، وتلفت نظرنا تلك العبارة الغامضة التي يذكرها بعض اللغويين في ختام تعريفاتهم، وهي قولهم "وصعاليك العرب ذؤبانها". ونتساءل مرة أخرى: ماذا يعني اللغويون بذؤبان العرب؟ ونمضي إلى مادة "ذاب" نسأل اللغويين عن معنى "ذؤبان العرب"، فإذا هم يحيلوننا مرة أخرى على "صعاليك العرب". ففي الصحاح "وذؤبان العرب أيضا صعاليكها الذين يتلصصون"، وفي القاموس المحيط "ذوبان العرب لصوصهم وصعاليكهم"، وفي أساس البلاغة "وهم ذؤبان العرب: من صعاليكهم وشطارهم"، وفي النهاية لابن الأثير "يقال لصعاليك العرب ولصوصها ذؤبان لأنهم كالذئاب".
وهكذا كادت المسألة أن تكون دورا -كما يقول المناطقة- لولا هذه الزيادات القليلة التي أضافها هؤلاء اللغويون إلى تعريفاتهم. ومن هذه الزيادات عرفنا أن هؤلاء الصعاليك كانوا "يتلصصون"، وأنهم كانوا "شطارا"، كما عرفنا أنهم سُموا هكذا لأنهم كانوا كالذئاب. ومع ذلك فما زلنا نشعر بأن هذه الزيادات لم تتقدم بنا كثيرا في داخل هذه "الدائرة الاجتماعية"، وأن علماء اللغة يحومون حول هذه الدائرة دون أن ينفذوا إلى داخلها، مع إحساسهم أن هناك شيئا آخر غير الفقر في مفهوم المادة. وهو هذا الذي حاولوا أنيفسروه بذلك الربط بين الصعاليك والذؤبان.
ولكننا لا نريد أن ننتهي من هذا البحث اللغوي دون أن نشير إلى أن أبا زيد القرشي صاحب جمهرة أشعار العرب، قد تنبه إلى أن هناك جانبين لهذه المادة، واستطاع أن يميز بينهما تمييزا دقيقا واضحا حيث يقول: "الصعلوك الفقير، وهو أيضا المتجرد للغارات"، وهذا التعبير عن مفهوم المادة الاجتماعي بالتجرد للغارات يجعلنا نسجل لهذا العالم المتقدم على أصحاب المعاجم التي بين أيدينا أنه كان أدق من عرف معنى الصعلوك.
ماذا فهمنا عن صعاليك العرب؟
وهنا نقف لنتساءل: ماذا فهمنا عن صعاليك العرب؟
أغلب الظن أننا لم نصل إلى أشياء كثيرة، وأننا ما زلنا في بداية الطريق الطويل نتحسس خطواتنا في الظلام تحت أضواء النجوم الخافتة، وأن شوطا بعيدا ما يزال ينتظرنا حتى مطلع الفجر. ويبدو أنه لا بد لنا من أن نمضي إلى مصادر الأدب العربي نسألها: ما أخبار هؤلاء الصعاليك؟ وأين شعر شعرائهم الذي صوروا فيه حياتهم؟ لعلنا نجد فيها وفيه ما نستطيع به أن نرسم صورة أشد وضوحا لهذه الطبقة من طبقات المجتمع الجاهلي.
الصعاليك في المجتمع الجاهلي:
حين نرجع إلى أخبار هؤلاء الصعاليك نجدها حافلة بالحديث عن فقرهم، فكل الصعاليك فقراء، لا نستثني منهم أحدا، حتى عروة بن الورد سيد الصعاليك الذي كانوا يلجئون إليه كلما قست عليهم الحياة، ليجدوا عنده مأوى لهم حتى يستغنوا، فالرواة يذكرون أنه "كان صعلوكا فقيرا مثلهم"، وأخوه وابن عمه يقولان له -حين عرض عليه أهل امرأته التي أصابها في بعض غزواته أن يفتدوها: "والله لئن قبلت ما أعطوك لا تفتقر أبدا"، بل أكثر من هذا يذكر الرواة أنه جاء بامرأته إلى بني النضير "ولا شيء معه إلا هي، فرهنها، ولم يزل يشرب حتى غَلِقَتْ". وتكثر في شعره أحاديث فقره، وما يعانيه من حرمان، وما يتكبده في سبيل الغنى من جهد ومشقة، وما يشعر به من ثقل التبعة التي يتحملها إزاء أهله، وإزاء أصحابه الصعاليك أيضا:
ذريني للغنى أسعى، فإني
رأيت الناس شرهم الفقير
فسر في بلاد الله والتمس الغنى
تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا
من المال يطرح نفسه كل مطرح
وهذا الفقر الذي استبد بحياة الصعاليك حمل لهم في ركابه الجوع، نتيجة طبيعية له، ولعل الجوع أقسى ما يحمله الفقر إلى جسد الفقير.
وقد سئل أعرابي: ما أشد الأشياء؟ فقال: كبد جائعة تؤدي إلى أمعاء ضيقة. وليس من شك في أن هذه العبارات الساذجة التي صور فيها هذا الأعرابي إحساسه إنما تشير إلى قصة الحياة الأساسية، قصة الصراع بين الحياة والموت. وذلك لأن المسألة تتصل بحاجات الجسم الحيوية الأولى، فالجوع -كما يقرر علماء الاجتماع- أول الدوافع المسيطرة على حياة الإنسان
. وقد كان من العرب من يغير من أجل الحصول على الطعام، بل إن كثيرا من الصراع الداخلي بين القبائل الجاهلية إنما يرجع -من بعض جوانبه- إلى الفقر والجوع، وما أكل ضباب الصحراء ويرابيعه وأورالها سوى مظهر من مظاهر هذا الجوع القاتل الذي كان يعانيه عرب البادية حين يجدبون وتتتابع عليهم السنين، وما كان قتل بعض العرب أولادهم خشية إملاق سوى مظهر آخر من مظاهر هذا الجوع القاتل.
ويكثر الحديث عن الجوع في أخبار الصعاليك وشعرهم، ففي أخبار عروة أن ناسا من بني عبس أجدبوا "في سنة أصابتهم، فأهلكت أموالهم، وأصابهم جوع شديد وبؤس"، فأتوا عروة يستنجدون به، فخرج "ليغزو بهم ويصيب معاشا"
. وتنتشر في شعره وأخباره مناقشات بينه وبين صعاليكه حول الجوع الذي كان يجهدهم في غزواتهم. ويذكر الرواة أن أبا خراش الهذلي أقفر من الزاد أياما. ويحدثنا السليك بن السلكة في بعض شعره كيف كان يغمى عليه من الجوع في شهور الصيف حتى ليشرف على الموت والهلاك:
ومنا نلتها حتى تصعلكت حقبة
وكدت لأسباب المنية أعرف
وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني
إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف
ويتحدث الأعلم الهذلي عن أولاده الشعث الصغار الذين ينظرون إلى من يأتيهم من أقاربهم بشيء يأكلونه:
وذكرت أهلي بالعرا
ء وحاجة الشعث التوالب
المصرمين من التلا
د اللامحين إلى الأقارب
بل إن الجوع ليشتد بعروة فيهتف بأصحابه الصعاليك هتفه من لا يطيق عليه صبرا أن هلموا إلى الغزو، فللموت خير من حياة الجوع والهزال:
أقيموا بني لبني صدور ركابكم
فإن منايا القوم خير من الهزل
وفي لامية العرب التي تعد صورة دقيقة كاملة لحياة الصعاليك في العصر الجاهلي حتى على فرض انتحالها وعدم صحة نسبتها إلى الشنفرى، يرسم الشاعر صورة رائعة لذلك الجوع النبيل الذي يشعر به الصعلوك، ولكن نفسه الأبية تأبى عليه أن يهينها من أجله، فلا يجد أمامه سوى الصبر والقناعة:
أديم مطال الجوع حتى أميته
وأضرب عنه الذاكرة صفحا فأذهل
وأستف ترب الأرض كي لا يرى له
عليَّ من الطول امرؤ متطول
ولولا اجتناب الذام لم يبق مشرب
يعاش به إلا لديَّ ومأكل
ولكن نفسا حرة لا تقيم بي
على الضيم به إلا ريثما أتحول
وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت
خيوطه ماري تغار وتفتل
وأغدو على القوت الزهيد كما غدا
أزل تهاداه التنائف أطحل
وإذا كان الجوع أقسى ما يصبه الفقر من سياط على جسد الفقير فإن هناك سياط أخرى لا تقل قسوة عن سياط الجوع، ولكنها سياط نفسية يصيبها الفقر على نفس الفقير.
والحديث عن هذه السياط النفسية يطول؛ لأنها تختلف باختلاف النفسيات ووقع الفقر عليها. وقد حاول صاحب "الفلاكة والمفلوكين" أن يحصرها، فعقد في كتابه فصلا طويلا "في الآفات التي تنشأ من الفلاكة، وتستلزمها الفلاكة وتقتضيها"، وعد منها الآلام العقلية، وهو تعبير يرادف ما نعبر عنه بالآثار النفسية، وحصرها في ثلاثة أنواع، وحاول أن يدلل على هذا التقسيم الثلاثي تدليلا عقليا منطقيا تكثر فيه الحدود والأقسام والمقدمات والنتائج.
ولكن هذه المحاولة -من وجهة النظر العلمية الحديثة- غير دقيقة، فإن هذه الآثار النفسية ليس من اليسير حصرها، فليست المسألة مسألة منطقية تقبل القسمة العقلية، ولكنها مسألة نفسية تتصل بالنفس البشرية، تلك النفس الغامضة الممعنة في الغموض ذات السراديب العميقة، والأسرار الدفينة المكبوتة. ويحاول علماء النفس المحدثون دراسة هذه المسألة وأشباهها على أساس ما يسمونه "بالعقد النفسية"، ومن بين هذه العقد عقدة يسمونها "عقدة الفقر"، وهي تلك التي تتكون نتيجة للإحساس بالفقر، وتدفع صاحبها في محاولة التعويض عن الشعور بالنقص إلى العمل على أن يصير غنيا. فهذه العقدة هي المحور الذي تدور حوله تلك الآثار النفسية التي يخلفها الفقر في نفس الفقير.
شعور الصعاليك بالفقر
والمتأمل في أخبار الصعاليك وأشعارهم يلفت نظره شعور حاد بالفقر، وإحساس مرير بوقعه على نفوسهم، وشكوى صارخة من هوان منزلتهم الاجتماعية وعدم تقدير المجتمع لهم، وعجزهم عن الأخذ بنصيبهم من الحياة كما يأخذ سائر أفراد مجتمعهم، أو الوقوف معهم على قدم المساواة في معترك الحياة، لا لأنهم هم أنفسهم عاجزون، وإنما لأن مجتمعهم ظلمهم، وحرمهم من تلك العدالة الاجتماعية التي يطمح إليها كل فرد في مجتمعه، وجردهم من كل الوسائلالمشروعة التي يواجهون بها الحياة كما يواجهها غيرهم ممن توافرت لهم هذه الوسائل.
فقيس بن الحدادية يرى أن لا يسوي عند قومه "عنزا جرباء جذماء". وفي أخبار الشنفرى أن قومه قتلوا رجلا في خفرة بعض الفهميين، "فرهنوهم الشنفرى وأمه وأخاه، وأسلموهم، ولم يفدوهم"، وخبر تلك اللطمة التي لطمتها الفتاة السلامية للشنفرى، والتي كانت السبب المباشر في تصعلكه؛ لأنها أنكرت عليه أن يتسامى إلى مقامها الاجتماعي، ويرفع الحواجز الاحتماعية التي تفصل بين طبقتيهما، ويناديها بأخته، خبر كبير الدلالة على ما كان يعانية هؤلاء الصعاليك من مجتمعهم.
وينظر هؤلاء الفقراء الجياع، المحتقرون من مجتمعهم، المنبوذون من إخوانهم في الإنسانية، إلى الحياة ليشقوا لهم طريقا في زحمتها، وقد جردوا من كل وسائلها المشروعة، فلا يجدون أمامهم إلا أمرين: إما أن يقبلوا هذه الحياة الذليلة المهينة التي يحيونها على هامش المجتمع، في أطرافه البعيدة، خلف أديار البيوت، يخدمون الأغنياء، أو ينتظرون فضل ثرائهم، أو يستجدونهم في ذلة واستكانة، وإما أن يشقوا طريقهم بالقوة نحو حياة كريمة أبية، يفرضون فيها أنفسهم على مجتمعهم، وينتزعون لقمة العيش من أيدي من حرموهم منها، دون أن يبالوا في سبيل غايتهم أكانت وسائلهم مشروعة أم غير مشروعة، فالحق للقوة، والغاية تبرر الوسيلةوقد سلك الصعاليك السبيلين، أو -بعبارة أدق- انقسموا مع هذين السبيلين إلى طائفتين:
طائفة قبلت ذلك الوضع الاجتماعي الذليل، رضيه لهم ضعف في النفس أو ضعف في الجسد أو ضعف في النفس والجسد جميعا،
وطائفة رفضت ذلك الوضع، وأبت أن تعيش تلك الحياة الساقطة التافهة المهينة، ووجدت في القوة، قوة النفس وقوة الجسد، وسيلة تشق بها طريقها في الحياة.
وفي شعر عروة موازنة طريفة بين هاتين الطائفتين، يعقدها أبو الصعاليك في دقة وبراعة، ويصور فيها اختلاف ما بينهما في الشخصية، وأسلوب الحياة والغاية التي تنتهي إليها كل منهما.
وتتجلى قوة نفوس هذه الطائفة الثانية من الصعاليك في استهانتهم بالحياة في سبيل الوصول إلى الغاية التي يسعون إليها. إنهم يريدون أن يحققوا لهم مكانة في هذا المجتمع الذي يحتقرهم ويستهين بهم عن طريق فرض أنفسهم بالقوة عليه، وهم في سبيل هذا لا يبالون بشيء، حتى بالحياة نفسها، فهم جميعا مؤمنون بفكرة الفناء في سبيل المبدأ، وما قيمة الحياة إذا عاش الإنسان فقيرا محتقرا، منبوذا من مجتمعه، مجفوا من أقاربه؟ إن الموت في هذه الحالة خير من الحياة:
إذ المرء لم يبعث سواما ولم يرح
عليه، ولم تعطف عليه أقاربه
فللموت خير للفتى من حياته
فقيرا، ومن مولى تدب عقاربه
فقلت له: ألا احْيَ، وأنت حر
ستشبع في حياتك أو تموت
فسر في بلاد الله والتمس الغنى
تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
وفيم الخشية من الموت؟ إن كل حي ملاقيه، سواء من خاطر بنفسه ومن أحجم، بل إن الموت قد يصيب المتخلف في أهله وينجو منه المغامر المخاطر:
أرى أم حسان الغداة تلومني
تخوفني الأعداء والنفس أخوف
لعل الذي خوفتنا من أمامنا
يصادفه في أهله المتخلف
ومهما يمد الله في عمر الإنسان فالموت في انتظاره مشرعة أسنته:
وإني، وإن عمرت، أعلم أنني
سألقى سنان الموت يبرق أصلعا
فالموت نهاية كل حي، لن ينجو منه أحد مهما يحط نفسه بأبواب قوية وحراس أشداء:
لو كنت في ريمان تحرس بابه
أراجيل أحبوش وأغضف آلف
إذن لأتتني حيث كنت منيتي
يخب بها هاد بأمري قائف
وهي ميتة واحدة يلقاها الإنسان ثم لا تتكرر:
دعيني وقولي بعد ما شئت، إنني
سيُغْدَى بنعشي مرة فأغيب
فلسفة الصعاليك في الحياة
ثم ما الذي يغري الصعلوك على التمسك بالحياة والحرص عليها؟ إن إحدا لا يرغب في حياته، وإن أحدا لن يبكي عليه بعد موته. إنه يعيش وحيدا، ويموت وحيدا:
إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها
ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي
وصعاليك هذه الطائفة جميعا ذوو عزيمة قوية صادقة، لا يثنيهم شيءعن هدفهم الذي يسعون إليه إلا الموت، يقول تأبط شرا مصورا صدق عزيمته وقوة نفسه:
وكنت إذا ما هممت اعتزمت
وأحر إذا قلت أن أفعلا
وإذا كانت الحياة قد قست عليهم فإنهم لن يستكينوا لها، وإذا كانت تعمل على إخضاعهم وإذلالهم فإنهم سيقفون في وجهها، ويتحدونها، ويشنون عليه حربا لا هوادة فيها، وإذا كانت قد ألقت بهم في الرغام فإنهم سينهضون برغم كل شيء. ولعل هذا البيت الذي قاله أبو خراش الهذلي الصعلوك في رثاء أخ له يعبر تعبيرا دقيقا عن تلك القوة النفسية التي كان يتمتع بها كل صعلوك من صعاليك هذه الطائفة:
ولكنه قد نازعته مجاوع
على أنه ذو مِرَّة صادق النهض
هكذا كانت نفسية هؤلاء الصعاليك، كل منهم "قد نازعته مجاوع"، ولكن كلًّا منهم "ذو مرة صادق النهض".
ومن عناصر قوتهم النفسية أنفتهم من القيام بتلك الأعمال التي يصح أن يطلق عليها "الأعمال الفرعية في المجتمع القبلي"، وهي تلك التي كان يقوم بها العبيد وأشباههم، ويأنف السادة من القيام بها، كخدمة الإبل والقيام بأمرها. ويصرح تأبط شرا بترفعه على هذه الأعمال الفرعية وبأنه يأنف من القيام بها:
ولست بترعي طويل عشاؤه
يؤنفها مستأنف النبت مبهل
ويصرح مرة أخرى بأنه يخجل من الوقوف وسط قطعان الغنم، وقد حمل في يده عصا طويلة حتى أشبه ذلك الطائر المائي الطويل المنقار وقد وقف في مستنقع من مستنقعات المياة الضحلة:
ولست براعي ثلة قام وسطها
طويل العصا غرنيق ضحل مرسل
فهم لا يرتضون لأنفسهم إلا تلك الأعمال الأساسية التي يقوم عليها المجتمع البدوي كالغزو والإغارة. يقول تأبط شرا:
متى تبغني ما دمت حيا مسلما
تجدني مع المسترعل المتعبهل
ولكنه في الطليعة المتقدمة بين القادة والأبطال.
ثم هم -برغم فقرهم وما يلاقونه من مجتمعهم- كرماء، حتى ليضرب بهم المثل في الكرم، ويُقرن عروة بحاتم الطائي الذي يعد في نظر العرب المثل الأعلى للجود والسخاء،
وقد قال عبد الملك بن مروان: من زعم أن حاتما أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد وأبدى تعجبه من أن الناس ينسبون الجود والسخاء إلى حاتم ويظلمون عروة، ووصفه الأصمعي بأنه "شاعر كريم". والواقع أننا لسنا في حاجة إلى هذه الشهادات وأمثالها؛ لأن أخبار عروة نفسها تفيض بأحاديث كرمه، بل إن الرغبة في الكرم التي كانت تملأ عليه نفسه كانت بعض الدوافع التي دفعته إلى تلك الثورة الاقتصادية التي أعلنها في المجتمع الجاهلي
يريح على الليل أضياف ماجد
كريم، ومالي سارحا مال مقتر
أيهلك معتم وزيد ولم أقم
على ندب يوما ولي نفس مخطر
وهي تلك الثورة التي كانت تدفعه إلى مهاجمة الأغنياء البخلاء ليوزع ما يغنمه منهم على الفقراء الذين كانوا يلتف ون حوله، ويلوذون، في سني الجدب والقحط والجفاف. وهو -قبل هذا كله- صاحب هذه الأبيات الجميلة التي يصور فيها كرمه تصويرا رائعا على حظ كبير من الإنسانية، فيراه مشاركة الفقراء له في إنائه، واكتفاءه هو بالماء الخالص في أيام الشتاء الباردة ليوفر طعامهم، بل يراه تقسيما لجسمه في أجسامهم حتى أصبح هزيلا شاحبا:
إني امرؤ عافى إنائي شركة
وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وقد ترى
بجمسي مس الحق، والحق جاهد
أُقسِّم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد
وتنتشر أحاديث هذا الكرم في شعره انتشارا واسعا، حتى لتكاد كل صفحة من ديوانه تنطق بهذه الأحاديث التي كان يراها:
أحاديث تبقى، والفتى غير خالد
إذا هو أمسى هامة فوق صير
وهي أحاديث كان كل صعلوك يحرص على أن تبقى له بعد موته. وفي قافية تأبط شرا المفضلية المشهورة دفاع قوي عن كرمه وإسرافه اللذين جرا عليه كثيرا من اللوم والعذل والتأنيب
بل من لعذالة خذالة أشب
حرق باللوم جلدي أي تحراق
يقول أهلكت مالا لو قنعت به
من ثوب صدق ومن بز وأعلاق
عاذلتي إن بعض اللوم معنفة
وهل متاع، وإن إبقيته، باق
أما مادة هذا الكرم فهي -بطبيعة الحال- ما يغنمونه من غزواتهم في أرجاء الجزيرة العربية، وغاراتهم على القبائل أو على القوافل التجارية أو على طبقة الأغنياء البخلاء. فقد كانت هذه الغنائم تتيح لهم فرصة -مهما تكن قصيرة- لكي يتشبهوا بالسادة الأغنياء في البذل والعطاء واكتساب المحامد.
وهكذا "كان الصعلوك، فزع البرية، ينقلب في أعقاب غزواته الناجحة سيدا كريما نبيلا، يَصُف على المواقد الإبل التي نهبها ليطعم منها التيامى والأرامل". فالغزوة والغارة والسلب والنهب ليست عندهم وسائل للغنى وجمع المال فحسب، ولكنها أيضا وسائل للبذل والعطاء، واكتساب المحامد، والتشبه بالسادة الأغنياء في الكرم والجود.
وإذا كانت هاتان الغايتان تتنازعان نفوس الصعاليك، وتتجاذبانها كل إليها، على نحو ما نرى عند تأبط شرا الذي يصرح في قافيته المفضلية بأن المال وسيلة للكرم، ووسيلة "لتسديد الخلال" أيضا، فإن الغاية الأخيرة وحدها كانت هي الغاية الأساسية عند عروة الذي خلصت نفسه تماما من هذا التنازع وهذه المجاذبة:
دعيني أطوف في البلاد لعلني
أفيد غنى فيه لذي الحق محمل
أليس عظيما أن تلم ملمة
وليس علينا في الحقوق معول
فإن نحن لم نملك دفاعا بحادث
تلم به الأيام فالموت أجمل
فطلب الغنى عند عروة ليس هدفا في ذاته، ولكنه وسيلة للكرم وقضاء الحقوق والتشبه بالسادة.
وإلى جانب هذه القوة النفسية التي كان هؤلاء الصعاليك يمتازون بها كانوا يتمتعون أيضا بالشجاعة والجرأة وقوة الجسد.
وتفيض أخبارهم وأشعارهم بأحاديث هذه القوة، كما تتردد هذه الأحاديث في أخبار معاصريهم وفي شعرهم أيضا. يقول تأبط شرا مفتخرا بقوته:
وما ولدت أمي من القوم عاجزا
ولا كان ريشي من ذنابي ولا لغب
ويصرح الشنفرى -في اعتداد بنفسه- بأنه يقدم في شجاعة وجرأة حيث يقف الجبان هلعا جزوعا:
إذا خشعت نفس الجبان وخيمت
فلي حيث يخشى أن يجاوز مخشف
ويرسم عمرو بن معديكرب الفارس المشهور صورة للسليك بن السلكة يصفه فيها بأنه "كالليث يلحظ قائما"، وبأنه:
له هامة ما تأكل البيض أمها
وأشباح عادي طويل الرواجب
ويرسم أبو كبير الهذلي في أبياته اللامية التي رواها أبو تمام في حماسته صورة قوية لتأبط شرا، يصور فيها قوته وصلابته وخفته، وسرعة عدوه، وجرأة قلبه، وشدة مراسه، ومضاء عزيمته، وكيف أعدته الطبيعة منذ طفولته المبكرة، بل من قبل طفولته، ليكون قويا يستطيع أن ينهض بالعبء الذي ستلقيه الحياة على عاتقه فيما بعد، ذلك العبء الثقيل الذي لا يستطيع أن ينهض به إلا من أعدته الطبيعة له إعدادا خاصا، وهي صورة متكاملة الجوانب، دقيقة الخطوط، واضحة الألوان، يرسمها الشاعر لتأبط شرا، ولكنها تصلح أيضا لكل صعلوك من أولئك الصعاليك الأقوياء الذين روعوا الجزيرة العربية في عصرها الجاهلي، وأثاروا في أرجائها الرعب والفزع.
وحقا لقد كان هؤلاء الصعاليك فزعا رهيبا في هذا المجتمع الجاهلي، حتى لنسمع أن فارسا من فرسانه المعدودين، وهو عمرو بن معديكرب، يصرح بأنه لا يخشى أحد من فرسان العرب إلا أربعة، أحدهم السليك بن السلكة، وأنه يستطيع وحده أن يحمي الظعينة ويخترق بها أعماق الصحراء ما لم يلقه واحد من هؤلاء الأربعة. وحسب السليك أن يقرن بعامر وعتيبة وعنترة، وأن يخشى بأسه عمرو بن معديكرب.
والواقع أن هذه الشجاعة الفائقة لم تكن مقصورة على صعلوك دون صعلوك، وإنما كانت صفة يمتاز بها كل صعاليك هذه الطائفة، حتى أصبح الصعلوك مثلا يضرب في الشجاعة. أما أولئك الصعاليك الذين عرفوا بالفرار فإنهم كانوا يعدونه لونا من ألوان قوتهم الجسدية؛ لأنه المجال الذي يظهرون فيه شدةعدوهم، كما كانوا يرون فيه وسيلة للنجاة حتى يستأنفوا القتال في ظروف أشد ملاءمة لهم. يقول أبو خراش الهذلي الصعلوك:
فإن تزعمي أني جبنت فإنني
أفر وأرمي مرة كل ذلك
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا
وأنجو إذا ما خفت بعض المهالك
فهو يدافع عن فراره، ويرى أنه ليس دليلا على جبنه، وإنما هو "خطة موضوعة" يضطر إليها حين يصبح القتال "مغامرة انتحارية" لا أمل فيها، حتى ينجو من هلاك محقق، فيستأنف القتال حين يصبح القتال أمرا مضمون العاقبة.
ومن أشد ما يلفت النظر من مظاهر هذه القوة الجسدية سرعة العدو الخارقة للعادة التي اشتهرت بها هذه الطائفة من الصعاليك، حتى ليطلق عليهم أحيانا اسم "العدائين"، أو"الرجليين" أو "الرجيلاء"، كأنما أصبحت سرعة العدو ظاهرة مميزة لهم، وصفة ملازمة يعرفون بها. والمثل يضرب بجماعة منهم في سرعة العدو، فيقال "أعدى من الشنفرى"، و"أعدى من السليك"، و"أمضى من سليك المقانب". وتصفهم مصادر الأدب العربي بأنهم "أشد الناس عدوا"، أو أنهم "لا يحارون عدوا"، أو "يُلحقون"، أو يعدون عدوا يسبقون به الخيل، أو لا تعلق بهم الخيل، أو لم تلحقهم الخيل.
وتفيض هذه المصادر بأحاديث عدوهم وأخبار سرعتهم، وتبالغ فيها مبالغة تبدو أحيانا غير مقبولة، فتأبط شرا "كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين، وكان إذا جاع لم تقم له قائمة، فكان ينظر إلى الظباء، فينتقي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه، فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله".
وفي أخبار حاجز الأزدي أن أباه قال له: "أخبرني يا بني بأشد عدوك، قال: نعم، أفزعتني خثعم، فنزوت نزوات، واستفزتني الخيل، واصطف لي ظبيان، فجعلت أنهنههما بيدي عن الطريق لضيقه، ومنعاني أن أتجاوزهما في العدو لضيق الطريق، حتى اتسع واتسعت بنا فسبقتهما".
وفي أخبار السليك أن بني كنانة قالوا له حين كبر: "إن رأيت أن ترينا بعض ما بقي من إحضارك، فقال: اجمعوا لي أربعين شابا، وابغوني درعا ثقيلة. فأخذها فلبسها، وخرج الشباب، حتى إذا كان على رأس ميل أقبل يُحضر، فلاث العدو لوثا، واهتبصوا في جنبتيه فلم يصحبوه إلا قليلا، فجاء يحضر منتبذا حيث لا يرونه، وجاءت الدرع تخفق في عنقه كأنها خرقة".
وفي أخبار أبي خراش أنه دخل مكة "وللوليد بن المغيرة المخزومي فرسان يريد أن يرسلهما في الحلبة، فقال للوليد: ما تجعل لي إن سبقتهما؟ قال: إن فعلت فهما لك فأرسلا وعدا بينهما فسبقهما، فأخذهما".
ويذكر الرواة أن خطوا الشنفرى ذرع ليلة قُتل، "فوجد أول نزوة نزاها إحدى وعشرين خطوة، والثانية سبع عشرة خطوة، والثالثة خمس عشرة خطوة".
ومن الطريف أن يصف تأبط شرا رفيقه في الصعلكة الشنفرى حين يعدو بأنه "قد طار"، أو يصف عدو عمرو بن براقة بأنه "مثل الريح"، أو نسمعه يقسم بقوله "والذي أعدو بطيره"، وهو قسم يستمد طرافته من ذكر الطير فيه. وعقد صلة بينها وبين عدوه، كأنهما أصبح الصعلوك يعدو بأجنحتها.
وفي كل مناسبة يردد هؤلاء الصعاليك في شعرهم أحاديث عدوهم وسرعتهم. وهم يتحدثون عنها دائما في اعتداد وفخر كبيرين؛ إذ يرون فيهما ميزة تفردوا بها من بين سائر البشر، ووسيلة تعينهم على الحياة، وتيسر لهم سبل النجاة. يقول تأبط شرا مفتخرا بسرعته التي أنجته من أعدائه وما أرسلوه خلفه من خيل سريعة:
ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم
بالعيكتين لدى معدى ابن براق
كأنما حثحثوا حصا قوادمه
أو أم خشف بذي شث وطباق
لا شيء مني، ليس ذا عذر
وذا جناح بجنب الريد خفاق
حتى نجوت ولما ينزعوا سلبي
بواله من قبيض الشد غيداق
إنه سريع كالظليم أو الظبية، بل إنه أسرع من كل شيء حتى الخيل الجياد والطير الجارحة فوق قمم الجبال. ويصرح أبو خراش بأن سرعة عدوه هي التي أنجته من موت محقق، فلولاها لآمت امرأته ويتم ابنه:
تقول ابنتي لما رأتني عشية
سلمت وما إن كدت بالأمس تسلم
ولولا دراك الشد قاظت حليلتي
تخير من خطابها وهي أيم
فتقعد أو ترضى مكاني خليفة
وكاد خراش يوم ذلك يَيْتَم
وفي لامية العرب صورة قوية لهذه السرعة نرى فيها الصعلوك يسبق القطا الظامئة وهي تسرع إلى الماء:
وتشرب أسآرى القطا الكدر بعدما
سرت قربا أحشاؤها تتصلصل
هممت وهمت، وابتدرنا، وأسدلت
وشمر مني قارط متمهل
فوليت عنها وهي تكبو لعقره
يباشره منها ذقون وحوصل
إنها مباراة طريفة يقدمها لنا الشاعر بينه وبين القطا في الوصول إلى الماء، تنتهي بفوزه عليها، وإدراكه الماء قبلها، بل لقد شرب وارتوى قبل أن تصل هي، فلما وصلت لم تجد إلا سؤرا تشربه من بعده.
ولعل أقوى صورة رسمها صعلوك لهذه السرعة هي تلك الصورة التي رسمها تأبط شرا، والتي نرى فيها الصعلوك يسبق الريح بسرعته الفائقة:
ويسبق وفد الريح من حيث يُنتحى
بمنخرق من شده المتدارك
بل إن الأمر ليصل بحاجز الأزدي إلى أن يفدي رجليه بأمه وخالته، وماذا أفاد من أمه وخالته سوى تلك الحياة القاسية المحتقرة التي جرتاها عليه بلونهما الأسود؟ أما رجلاه فهما كل شيء في حياته، ولولاهما لفقد الحياة نفسها، وإذا كانت أمه وخالته سبب ما يلاقيه في حياته فإن رجليه سبب إنقاذه مما يلاقيه فيها:
فدى لكما رجلي أمي وخالتي
بسعيكما بين الصفا والأثائب
سرعة الصعاليك في العدو
وعلى ما في أحاديث هذا العدو في أخبار الصعاليك وشعرهم من مبالغات يقف المرء عندها متسائلا: أيمكن أن يكون هذا صحيحا؟ فإنها -على كل حال- تصور ظاهرة لا شك في حقيقتها المجردة، وهي أن هؤلاء الصعاليك كانوا يمتازون بسرعة في العدو خارقة للعادة، وهي سرعة لفتت أنظار الرواة فسجلوها بما فيها من مبالغات، واستقرت في أذهان الناس فضربوا بها الأمثال، ووجد فيها بعض الشعراء المتأخرين مادة يستغلونها في فنهم، ويستخدمونها في تشبياتهم وصورهم الفنية.
وينظر هؤلاء الصعاليك الأقوياء إلى المجتمع الذي يعيشون فيه، فإذا هو مجتمع ظالم، وإذا توزيع الثروة فيه توزيع جائر مضطرب. إنه مجتمع لا يؤمن إلا بالمال، ولكنه -مع ذلك- لا يحسن توزيع المال بين أفراده، فليس من العدل أن يكون لأحد أفراده عدد ضخم من الإبل في حين لا يملك الآخر غير حبل يجرره لا بعير فيه. وما هذه الإبل التي يملكها هذا الفرد سوى إبل الله خلقها للناس جميعا، فهي ليس حقا له وحده دون غيره من خلق الله في هذه الأرض.
والعجيب من أمر هذا المجتمع أن بين من يعطيهم بغير حساب بخلاءأشحاء لا ينتفع بمالهم أحد. في حين يحرم فيمن يحرم كرماء لو أعطاهم لنفعوا بمالهم أفراد مجتمعهم الفقراء المحتاجين، فهو يحرم هؤلاء الكرماء ما يكنزه أولئك البخلاء، ويحرمهم نتيجة لهذا فرصة التكافؤ الاجتماعي ومساواة إخوانهم في الإنسانية من الأغنياء الكرماء في شراء تلك الأحاديث الخالدة التي "تبقى والفتى غير خالد إذا هو أمسى هامة فوق صير" كما كان يقول عروة.
ووقف هؤلاء الصعاليك أمام هذه المشكلة الخطيرة، ولم يجدوا أمامهم -بسبب ظروف البيئة والمجتمع والمزاج الشخصي- ومن وسيلة يرضونها لأنفسهم إلا الاعتماد على القوة يغتصبون عن طريقها ما آمنوا بأنه حقهم المسلوب. "والخلة تدعو إلى السلمة" -كما يقول المثال العربي، فمضوا خلف أولئك الأغنياء المترفين، وبخاصة البخلاء منهم، وتربصوا بالقوافل التجارية التي تسيل بها شعاب الجزيرة العربية، ينهبون ويسلبون، ولا يتورعون عن قتل من يعترض طريقهم؛ لأن المسألة أخذت في أذهانهم وضعا ثنائيا لا ثالث له:
شعار الصعاليك إما حياة كريمة، وإما ميتة كريمة
إما حياة كريمة، وإما ميتة كريمة، أما أنصاف الحلول فشيء لا يؤمنون به. لقد آمن هؤلاء الصعاليك بأن "الحق للقوة"، وأن الضعيف ضائع حقه في هذه الحياة، ورأوا أمامهم أولئك الصعاليك الفقراء المستضعفين وما يلاقونه من ذل وضيم وهوان، فرثوا لهم، وآلوا على أنفسهم أن يثأروا لهم ممن استضعفوهم، وأن يفرضوا أنفسهم فرضا على ذلك المجتمع الذي أذل إخوانهم الضعفاء.
هكذا رسم هؤلاء الصعاليك الأقوياء النفس والجسد خطتهم من أجل الحياة أولا، ثم من أجل فرض أنفسهم على مجتمعهم الذي لا يعترف بهم، وتحقيق صورة من صور العدالة الاجتماعية بين طبقات هذه المجتمع بعد ذلك، وهي خطة تقوم على أساس "الغزو والإغارة للسلب والنهب".
وأحاديث "الغزو والإغارة للسلب والنهب" تنتشر في أخبار هؤلاء الصعاليك وشعرهم انتشارا واسعا، بل لعلها أكثر ما ينتشر في أخبارهم وشعرهم من أحاديث، حتى لتوشك أن تكون هي اللون البارز في لوحة حياتهم الاجتماعية والفنية.
ففي أخبار السليك أنه "أملق حتى لم يبق له شيء، فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به فيذهب بإبله، حتى أمسى في ليلة من ليالي الشتاء باردة مقمرة. فاشتمل الصماء، ثم نام فبينما هو نائم إذ جثم رجل فقعد على جنبه فقال: استأسر"، وسأله السليك من يكون، فقال له: "أنا رجل افتقرت، فقلت لأخرجن فلا أرجع إلى أهلي حتى أستغني، فآتيهم وأنا غني"، فقال له السليك: انطلق معي: "فانطلقا معا، فوجدا رجلا قصته مثل قصتهما، فاصطحبوا جميعا، حتى أتوا الجوف، جوف مراد، فلما أشرفوا عليه إذا فيه نعم قد ملأ كل شيء من كثرته، فهابوا أن يغيروا"، ولكن السليك دبر لهم حيلة "فأطردوا الإبل، فذهبوا بها، ولم يبلغ الصريخ الحي حتى فاتوهم بالإبل"
إنها قصة تصور لنا تلك الهوة الواسعة بين الطبقات في المجتمع الجاهلي: بين أولئك الذين "أملقوا حتى لم يبق لهم شيء"، وأولئك الذين أترفوا حتى "ملا نعمهم كل شيء من كثرته"، وهي قوة كانت تدفع هؤلاء الصعاليك المعدمين للخروج إلى الصحراء من أجل اغتصاب رزقهم من أيدي أولئك المترفين، وانتزاع لقمة العيش من بين أنيابهم، أو -بعبارة أخرى- كانت تدفعهم إلى "الغزو والإغارة للسلب والنهب".
وفي أخبار تأبط شرا أنه خرج في "عدة من فهم" يريدون الغارة على أحد أحياء بجيلة. وتمت الغارة بقتل نفر من بجيلة، ونهب إبل لهم. وساق الصعاليك الإبل حتى إذا كانوا "على يوم وليلة من بلادهم" تصدت لهم خثعم طامعة فيما معهم، ودار قتال بين الفريقين: صعاليك فهم العائدين بغنيمتهم، ورجال خثعم الطامعين فيها. وثبت الصعاليك -على قلتهم وكثرة خثعم- وانتهى الصراع بانهزام خثعم وتفرقها، وانطلاق الصعاليك بغنيمهم
في هذه القصة نرى صورة من حياة الصعاليك في المجتمع الجاهلي، تلك الحياة التي كانت تقوم على "الغزو والإغارة للسلب والنهب"، ومثلا قويا لذلك الصراع الدامي الذي كان الصعاليك يخوضون غماره في سبيل الحياة، وهو صراع كانوا يخوضون غماره في شجاعة وقوة لأنهم كانوا يتمثلونه صراعا بين الحياة والموت.
وفي أخبار عروة أنه كان -إذا أصابت الناس سنة شديدة- يجمع المرضى والضعفاء والمسنين من عشيرته، "ثم يحفر لهم الأسراب، ويكنف عليهم الكنف، ويكسبهم، ومن قوي منهم إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوته، خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا. حتى إذا أخصب الناس وألبنوا وذهبت السنة ألحق كل إنسان بأهله، وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى"
وفي أخباره أيضا أنه "بلغه عن رجل من بني كنانة بن خزيمة أنه أبخل الناس وأكثرهم مالا، فبعث عليه عيونا فأتوه بخبره، فشد على إبله فاستاقها، ثم قسمها في قومه.
على هذا النحو كانت الصعلكة عند عروة نزعة إنسانية نبيلة. وضريبة يدفعها القوي للضعيف، والغني للفقير، وفكرة اشتراكية تشرك الفقراء في مال الأغنياء، وتجعل لهم فيه نصيبا، بل حقا يغتصبونه إن لم يؤد لهم، وتهدف إلى تحقيق لون من ألوان العدالة الاجتماعية، التوازن الاقتصادي بين طبقتي المجتمع المتباعدتين: طبقة الأغنياء، وطبقة الفقراء، "
فالغزو والإغارة للسلب والنهب" لم يعد عنده وسيلة وغاية، وإنما أصبح وسيلة غايتها تحقيق نزعته الإنسانية وفكرته الاشتراكيةوقد يحدث أن تتطور هذه الأهداف الاجتماعية والاقتصادية عند بعض الصعاليك إلى لون من التمرد الخالص الذي لا يميز بين الأهداف، فإذا هم يتعرضون لكل من يسوقه حظه السيئ إلى مناطق تربصهم. يقول تأبط شرا معبرا عن هذا التمرد الخالص الذي أصبح عنده الوسيلة والغاية معا:
ولست أبيت الدهر إلا على فتى
أسلبه أو أذعر السرب أجمعا
أو يناضلون قبائل معينة العداء، يصبون عليها شرورهم، ويوجهون إليها غاراتهم وغزواتهم، كما كان يفعل تأبط شرا مع تلك المجموعة من القبائل التي يعددها في بعض أبياته، وكما كان بين صعاليك هذيل وصعاليك فهم من عداوة مستحكمة لا يهدأ أوارها، ظهرت آثارها في شعر الفريقين وأخبارهما.
وفي شعر الصعاليك صورة كثيرة متعددة الألوان والأوضاع لهذه الغارات، وأحاديث عنها لا تكاد تنتهي حتى تبدأ، وفي أكثر قصائد هذا الشعر ومقطوعاته يردد الصعاليك أقاصيص هذه الغارات في فخر وإعجاب، واعتداد بأنفسهم وبطولتهم. وفي تائية الشنفرى المفضلية صورة رائعة قوية لغارة قام بها هو وأصحابه الصعاليك، يصف فيها كيف أعد عصابته للغزو، ويصف الطريق الذي سلكوه، ويتحدث عن الدوافع التي دفعته إلى هذه الغارة، ثم يتحدث عن الأهداف التي حققتها، والغايات التي وصلت إليها. يقول:
وباضعة حمر القسي بعثتها
ومن يغز يغنم مرة ويشمت
خرجنا من الوادي الذي بين مشعل
وبين الجبا. هيهات أنشأت سربتي
أمشي على الأرض التي لن تضرني
لأنكى قوما أو ألاقي حمتي
أمشي على أين الغزاة وبعدها
يقربني منها رواحي وغدوتي
ثم يقول:
قتلنا قتيلا مهديا بملبد
جمار مني وسط الحجيج المصوت
جزينا سلامان بن مفرج قرضها
بما قدمت أيديهم وأزلت
وهنئ بي قوم وما إن هنأتهم
وأصبحت في قوم وليسوا بمنبتي
شفينا بعبد الله بعض غليلنا
وعوف لدى المعدى أوان استهلت
وفي لامية العرب قصة غارة مفاجئة خاطفة قام بها الصعلوك في ليلة باردة ذات ظلام ومطر، وقد استبد به الجوع والبرد والخوف، ثم عاد إلى "قواعده" سالما، بعد أن حقق أهدافه، مخلفا وراءه القوم يتسألون: ما هذا الذي طرق حيهم ليلا؟ وقد ذهبت آراؤهم فيه مذاهب شتى:
وليلة نحس يصطلي القوس ربها
وأقطعه اللاتي بها يتنبل
دعست على غطش وبغش، وصحبتي
سعار، وإرزيز ووجر وأفكل
فأيمت نسوانا، وأيتمت إلدة
وعدت كما أبدأت، والليل أليل
وأصبح عني بالغميصاء جالسا
فريقان: مسئول وآخر يسأل
فقالوا: لقد هرت بليل كلابنا
فقلنا أذئب عس أم عس فرعل
فلم تك إلا نبأة ثم هومت
فقلنا قطاة ريع أم ريع أجدل
فإن يك من جن لأبرح طارقا
وإن يك إنسا ما كها الإنس تفعل
وكان الصعاليك يخرجون لهذه الغارات الرهيبة فرادى أحيانا، وفي عصابات أحيانا أخرى. وكان أكثرهم يغير على رجليه، وبعضهم يغير على الخيل.
ففي أخبار الشنفرى أنه كان "يغير على الأزد على رجليه فيمن معه من فهم، وكان يغير عليهم وحده أكثر ذلك"، ومن أخباره أيضا أنه خرج "في ثلاثين رجلا معه تأبط شرا يريدون الغارة على بني سلامان".
وفي أخبار السليك أنه خرج "على رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به فيذهب بإبله"، وأنه التقى برجلين قصتهما مثل قصته "فاصطحبوا جميعا". وفي أخبار تأبط شرا أنه خرج "في عدة من فهم". وفي شعره حديث عن غزواته هو وصعاليكه على الخيل أحيانا، وعلى الأرجل أحيانا أخرى:
فيوما بغزاء، ويوما بسربة
ويما بخشخاش من الرجل هيضل
وفي شعر عروة أحاديث كثيرة عن هذين الأسلوبين من أساليب الغزو. يقول متحدثا عن امرأته التي تلومه على مخاطرته بنفسه في غاراته المتكررة تارة بأولئك الرجلين الذين يعتمدون في غزوهم على أرجلهم، وتارة بأولئك الفرسان الذين يغيرون على الخيل:
تقول: لك الويلات، هل أنت تارك
ضبوءا برجل تارة وبمنسر
ويقول متحدثا عن اعتماده على كلا الأسلوبين في بعض غاراته:
لعل انطلاقي في البلاد، ورحلتي
وشدي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يوما إلى رب هجمة
يدافع عنها بالعقوق وبالبخل
قليل تواليها وطالب وترها
إذا صحت فيها بالفوارس والرجل
وقد وفر الصعاليك لهذه الغارات كل ما يحقق لها النجاح، وبلوغ الغاية، وإدراك الهدف. فإلى جانب ما وفروه لها من قوة الجسد، وشجاعة القلب، وصدق العزيمة، وسرعة العدو، وفروا لها سعة الحيلة، وعمق الدهاء، والقدرة على الخلاص من المآزق الضيقة، والمواقف الحرجة.
ففي أخبار الشنفرى أنه كان إذا سار في الليل نزع نعلا ولبس نعلا، وضرب برجله، حتى يموه على الناس، فيظنوه الضبع. وفي أخباره أيضا أنه أقبل في ليلة على ماء لبني سلامان، فلما دنا من الماء قال: إني أراكم، وليس يرى أحدا، إنما يريد بذلك أن يخرج رصدا إن كان ثمة من يترصد له.
وفي أخبار السليك أنه احتال على رجل في سوق عكاظ حتى عرف منه منازل قومه، تمهيدًا للإغارة عليها.
وخبر الحيلة التي لجأ إليها تأبط شرا، حين حاصرته لحيان وهو يشتار العسل من غار في بلادهم، خبر ذائع مشهور
. وقصة احتياله هو الشنفرى وابن براقة على بجيلة حين أسرته، حتى نجا ونجا معه صاحباه، وهي القصة التي أشار إليها في قافيته المفضلية، قصة مشهورة أيضا.
وإلى جانب هذا كله كان طبيعيًّا أن يوفر الصعاليك لغاراتهم السلاح الذي يعتمدون عليه في هجومهم ودفاعهم؛ لأن الشجاعة أو القوة أو غيرها من الصفات التي كانوا يمتازون بها لا تكفي وحدها "في تلك البادية الفوضوية التي لا يستطيع إنسان أن يعيش فيها ما لم يكن مزودا بسيف أو قوس".
والواقع أن الصعاليك أعدوا لغاراتهم كل ما كانت تعرفه الجزيرة العربية من سلاح، سواء منه ما كان للهجوم وما كان للدفاع، ووصفوا في شعرهم كل ما كانوا يستخدمونه منه، وتحدثوا عن قيمته لهم في غزواتهم، بل في حياتهم كلها، فقد كانوا يرون فيه أهم شيء في حياتهم، وأغلى ما يملكون فيها، وما يخلفونه بعدها، فعمرو بن براقة يذكر أن سيفه هو "جل ماله"، وعروة يذكر أنه لن يخلف بعد موته سوى سيف ورمح ودرع ومغفر وجواد:
وذي أمل يرجو تراثي، وإن ما
يصير له منه غدا لقليل
ومالي مال غير درع، ومغفر
وأبيض من ماء الحديد صقيل
وأسمر خطي القناة مثقف
وأجرد عريان السراة طويل
هذا كل ما يملكه أبو الصعاليك، وكل ما سيخلفه من بعده لوارثيه، وهذا كل ما يسجله في "وصيته" من "ثروته". وقد بلغ من شدة حرص صخر الغي الصعلوك على سلاحه أنه كان يراه ثيابا له لا يخلعها عن جسده، ويذكر الرواة أن تأبط شرا "كان لا يفارقه السيف".
الصعاليك هم الفئة الواقفة في وجه المجتمع، المتمردة عليه
وقد استتبعت هذه الحياة الواقفة في وجه المجتمع، المتمردة عليه، الخارجة على نظمه، أن فقد المجتمع اطمئنانه إلى أصحابها، كما فقد أصحابها طمأنينتهم فيه، فانقطعت الصلة بينهما، وانفصمت تلك الرابطة الاجتماعية التي تربط بين الفرد ومجتمعه، وانحل ذلك العقد الاجتماعي الذي يجعل من الفرد عضواعاملا لمجتمعه، متوافقا معه، دائرا في فلكه، ورأى المجتمع في هؤلاء الصعاليك "شذاذا" خارجين عليه، غير متوافقين معه، فتنكر لهم، وتخلى عنهم، وتركهم يواجهون الحياة دون أية حماية منه أو ضمان اجتماعي، ورأوا هم في مجتمعهم مجتمعا مختلا، يسيطر عليه ظلم اجتماعي، وتسوده أنانية اقتصادية جائرة، وتنقصه عدالة اجتماعية تسوي بين جميع أفراده، وتكافؤ في فرص العيش يهيئ لكل فرد فيه أن يأخذ بنصيبه من الحياة كما يأخذ سائر الأفراد.
وكانت النتيجة الطبيعية لهذا كله أن فر هؤلاء الصعاليك من مجتمعهم النظامي ليقيموا لأنفسهم بأنفسهم "مجتمعا" فوضويا، شريعته "القوة"، ووسيلته "الغزو والإغارة"، وهدفه "السلب والنهب"، ووجدوا في الصحراء الفسيحة الواسعة التي لا تقيدها قيود، ولا تحد من حريتها حدود، ولا يستطيع قانون أن يخترق نطاقها ليفرض سلطانه عليها، مجالا لا حدود له يمارسون فيه نشاطهم الإرهابي، ويقيمون "دولتهم" الفوضوية، "دولة الصعاليك"، حيث يحيون حياة حرة متمردة، تسودها العدالة الاجتماعية، وتتكافأ فيها فرص العيش أمام الجميع.
وأخبار هؤلاء الصعاليك وأشعارهم تحفل بأحاديث هذا التشرد في أنحاء الصحراء الموحشة، ووديانها الرهيبة، حيث يحيا الوحش بعيدا عن البشر، وحيث يكمن الموت في كل رجء من أرجائها.
ولعل أقوى ما صُور به هذا التشرد في شعر الصعاليك هاتان الصورتان المتشابهتان اللتان نجد إحداهما عند تأبط شرا، والأخرى في لامية العرب، فكلا الصعلوكين مفارق مجتمعه النظامي حيث يعيش البشر، إلى أعماق الصحراء البعيدة حيث يعيش الوحش،
أما تأبط شرا فقد ألفته الوحش لطول ما عاش بينها مسالما لها، حتى أنست به، واطمأنت إليه،
وأما صعلوك اللامية فقد وجد في ضواري الصحراء أهلا له، يستعيض بها عن أهله من البشر، ويجد بينها الأمن والطمأنينة. يقول تأبط شرا متحدثا عن نفسه:
يبيت بمغني الوحش حتى ألفنه
ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا
رأين فتى لا صيد وحش يهمه
… فلو صافحت إنسا لصافحنه معا
ويقول صاحب اللامية مخاطبا أهله:
ولي دونكم أهلون: سيد عملس
وأرقط زهلول، وعرفاء جيأل
هم الأهل، لا مستودع السر ذائع
لديهم، ولا الجاني بما جر يخُذل
ومن الطبيعي أن هذا التشرد جعل الصعاليك على صلة قريبة بحيوان الصحراء، استطاعوا عن طريقها أن يعرفوا طباعه وعاداته، وأن يتحدثوا عنه وعنها حديث الخبير المطلع. وفي شعرهم صور كثيرة لحيوان الصحراء ووحشها وطيرها وحشراتها وما يخيل للساري فيها من أشباح، كذلك الوصف الدقيق للضباع وحياتها وطباعها في شعر الأعلم الهذلي، وكتلك الصورة الرائعة للذئاب الجائعة في لامية العرب وكتلك الصور المتعددة للغيلان وما يجري للإنسان معها في شعر تأبط شرا.
وكان من نتيجة هذا التشرد البعيد في أعماق الصحراء أن أصبح الصعاليك على علم واسع بأسرارها، ومعرفة دقيقة بشعابها ودروبها ومسالكها ومياهها، ومقدرة فائقة على الاهتداء في مجاهلها، واختراق متاهاتها المضلة دون دليل.
ورواة الأدب العربي يصفون السليك "البعيد الغارة" بأنه "كان أدل من قطاة"، بل إنهم يصفون الصعاليك بأنهم "أهدى من القطا"وفي شعر الصعاليك أحاديث كثيرة عن الصحراء، وفخر عريض بمعرفة أسرارها، والاهتداء في مجاهلها، كما ترى في تلك الأبيات الرائية التي يرويها الأصمعي لتأبط شرا، والتي يتحدث فيها عن اهتدائه إلى شعب في أعماق الصحراء المجهولة بصعاليكه دون أن يهديه إليه دليل أو يصفه له خبير، وكما نرى في هذه الأبيات القوية من لامية العرب:
وخرق كظهر الترس قفر قطعته
بعاملتين، ظهره لي يعمل
وألحقت أولاه بأخراه موفيا
على قنة أُقعي مرارا وأمثل
ترود الأراوي الصحم حولي كأنها
عذارى عليهن الملاء المذيل
ويركدن بالآصال حولي كأنني
من العصم أدفى ينتحي الكيح أعقل
فالشاعر في هذه الأبيات يصف الصعلوك بأنه يخترق الصحراء النائية الخالية التي لا يطرقها أحد، معتمدا في اختراقها على رجليه القويتين السريعتين، حتى يصل إلى منازل الوعول البعيدة التي لم تعد تنكره، لكثرة ما خالطها، حتى كأنه واحد منها.
والناظر في أخبار هؤلاء الصعاليك، المتتبع لظروف نشأتهم وحياتهم، يستطيع أن يلاحظ في وضوح ثلاث طوائف مختلفة تتألف منها عصاباتهم:
أنواع الصعاليك
طائفة "الخلعاء والشذاذ" الذين أنكرتهم قبائلهم، وتبرأت منهم، وطردتهم من حماها، وقطعت ما بينها وبينهم من صلة، وتحللت بهذا من العقد الاجتماعي الذي يربط بينها وبينهم، والذي يصوره المثل العربي القديم "في الجريرة تشترك العشيرة"، فأصبحت لا تحتمل لهم جريرة، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليهم، مثل حاجز الأزدي، وقيس بن الحدادية وأبي الطمحان القيني.
وطائفة "الأغربة" السود الذين سرى إليهم السواد من أمهاتهم الإماء، فلم يعترف بهم آباؤهم العرب، ولم ينسبوهم إليهم؛ لأن دماءهم ليست عربية خالصة، وإنما خالطتها دماء أجنبية سوداء لا تصل من درجة نقائها إلى درجة الدم العربي، مثل تأبط شرا، والشنفرى، والسليك بن السلكة.
ثم طائفة الفقراء المتمردين الذين تصعلكوا نتيجة لتلك الظروف الاقتصادية المختلة التي كانت تسود المجتمع الجاهلي، ويمثلهم عروة بن الورد ومن كان يلتف حوله من فقراء العرب، وكذلك تلك المجموعة الكبيرة من صعاليك هذيل.
من هذه الطوائف الثلاث تألفت عصابات الصعاليك، وهي عصابات قطعت ما بينها وبين قبائلها من صلات، وانطلقت إلى الصحراء، كما تنطلق الذئاب الجائعة، لتشق لنفسها طريقا في الحياة، وقد جمع بينها -على اختلاف قبائلها- الفقر، والتشرد، والتمرد، والكفر بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يؤمن بها المجتمع الذي خرجت عليه، والإيمان بأن الحق للقوة، وأن الضعيف ضائع حقه في هذا المجتمع.
والظاهرة الواضحة في حياة هؤلاء الصعاليك -على اختلاف الدوافع التي دفعتهم إلى حياة التصعلك- هي أنهم جميعا فقدوا توافقهم الاجتماعي.
وظاهرة "التوافق الاجتماعي" هي الظاهرة التي يقرر علماء الاجتماعي أنها الأساس الذي تقوم عليه الصلة بين الفرد والمجتمع، بحيث يكون عمل الفرد من أجل صالح المجموع، كما يكون عمل المجموع لصالح الفرد.
وفقدان هذا "التوافق الاجتماعي" ينتهي بالفرد عادة إلى أن تكون صلته بمجتمعه قائمة على أساس "السلوك الصراعي"، وذلك لأن في كل مجتمع تيارين متضادين: أحدهما يتصل بالفرد، والآخر يتصل بالمجتمع، ووجود هذين التيارين يستدعي وجود نوعين من الصلة بين الفرد والمجتمع، فإما أن يكون بينهما "وفاق"، وإما أن يكون بينهما "صراع"، وهذان النوعان من الصلة بين الفرد والمجتمع هما ما اصطلح علماء الاجتماع على تسميتهما "بالسلوك التعاوني"، "والسلوك الصراعي".
ومن الطبيعي أن تكون الأسباب التي جعلت هذه الطوائف المختلفة من الصعاليك تفقد توافقها الاجتماعي أسبابا مختلفة، وذلك لاختلاف "المشكلة النفسية" التي تواجهها طائفة منها عن المشكلة التي تواجهها طائفة أخرى.
ولكن هذه المشكلات -على اختلافها- كانت تنتهي بطوائف الصعاليك جميعا إلى هذا "اللاتوافق الاجتماعي" الذي كان يدفعها إلى أن يكون سلوكها الاجتماعي "سلوكا صراعيا".
والآن، بعد هذه الجولة الواسعة خلف أخبار "صعاليك العرب" وأشعارهم، في كتب اللغة، وفي مصادر الأدب العربي، نقف لنسجل النتيجة التالية:
تدور كلمة "الصعلكة" في دائرتين: دائرة لغوية، ودائرة اجتماعية. وتبدأ الدائرتان من نقطة واحدة هي الفقر، فأما الدائرة اللغوية فتنتهي حيث بدأت، يبدأ الصعلوك فيها فقيرا، ويظل في نطاقها فقيرا، يخدم الأغنياءأو يستجديهم فضل مالهم، ثم يموت فقيرا،
وأما الدائرة الاجتماعية فتتسع وتبعد عن نقطة البدء لتنتهي، أو لتحاول أن تنتهي، بعيدا عنها، يبدأ الصعلوك فيها فقيرا، ثم يحاول أن يتغلب على الفقر الذي فرضته عليه أوضاع اجتماعية أو ظروف اقتصادية. وأن يخرج من نطاقه ليتساوى مع سائر أفراد مجتمعه، ولكنه -من أجل هذه الغاية- لا يسلك السبيل التعاوني. وإنما يدفعه "لا توافقه الاجتماعي" إلى سلوك السبيل الصراعي، فيتخذ من "الغزو والإغارة للسلب والنهب" وسيلة يشق بها طريقه في الحياة، فيصطدم بمجتمعه الذي يرى في هذه الفوضوية الفردية مظهرا من مظاهر التمرد.
وتنقطع الصلة بين المجتمع والصعلوك، فيتخلى المجتمع عنه، ويحرمه حمايته، ويعيش الصعلوك خليعا مشردا، أو طريدا متمردا، حتى يلقى مصرعه، فأما أعداؤه فقد استراحوا من هذا الفزع الذي كانوا يترقبونه في كل حين، كما يترقب غائبا منتظرا أهله -على حد تعبير عروة- وأما أصدقاؤه فقد سقط أحدهم في سبيل فكرته بعد أن أدى رسالته في هذه الحياة.
وإذا كنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة عن طريق استعراض هذه الظاهرة في مصدرها الأول، وهو المجتمع الجاهلي، فإن في صنيع اللغويين ما يؤيدنا فيما وصلنا إليه، حيث أشاروا إلى جانب خاص من المادة اللغوية عبروا عنه بصعاليك العرب، ولنا إذن أن نقول: إن ما عبر عنه اللغويون "بصعاليك العرب" هو ما نعبر عنه "بصعاليك الدائرة الاجتماعية".
وإذ نلاحظ أن المتصلين بمشكلة الفقر والغنى وتوزيع الثروة في المجتمع الجاهلي قد أشاروا على ألسنة شعرائهم إلى طائفتين من الصعاليك، فمدحوا إحداهما "لله هي"، وذموا الأخرى "لحاها الله"، نستطيع أن نقول في ضوء هذه النتيجة التي وصلنا إليها إن هناك نوعين من الصعاليك:
الصعلوك العامل وهو الذي يمثل صعاليك الدائرة الاجتماعية.
والصعلوك الخامل وهو الذي يمثل صعاليك الدائرة اللغوية فالمسألة إذن ليست مسألة لغوية فحسب، يرجع فيها إلى كتب اللغة، وإنما هي -إلى جانب هذا- ظاهرة اجتماعية يرجع فيها إلى المجتمع الجاهلي، وما كان ينطوي عليه من عوامل عملت على ظهورها، والاتجاه بها إلى تلك الاتجاهات التي اتجهت إليها.
المصادر
الكتاب: الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي
المؤلف: يوسف خليف