البديهة والارتجال في الشعر العربي
البديهة: عند كثير من الموسومين بعلم هذه الصناعة في بلدنا أو من أهل عصرنا هي الارتجال، وليست به؛ لأن البديهة فيها الفكرة والتأيد.
والارتجال: ما كان انهماراً وتدفقاً لا يتوقف فيه قائله: كالذي صنع الفرزدق وقد دفع إليه سليمان بن عبد الملك أسيراً من الروم ليقتله، فدس إليه بعض بني عبس سيفاً كهاماً فنبا حين ضرب به، فضحك سليمان، فقال الفرزدق ارتجالاً في مقامه ذلك يعتذر لنفسه، ويعير بني عبس بنبو سيف ورقاء بن زهير عن رأس خالد بن جعفر
فإن يك سيف خان أو قدر أبى
لتأخير نفس حينها غير شاهد
فسيف بني عبس وقد ضربوا به
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها
ويقطعن أحياناً مناط القلائد
ولو شئت قط السيف ما بين أنفه
إلى علقٍ دون الشراسيف جاسد
ثم جلس وهو يقول:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم
إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
وكالذي يروى عن أبي الخطاب عمرو بن عامر السعدي المعروف بأبي الأسد، وقد أنشد موسى الهادي شعراً مدحه به يقول فيه:
يا خير من عقدت كفاه حجزته
وخير من قلدته أمرها مضر
فقال له موسى: إلا من يا بائس؟ فقال واصلاً كلامه ولم يقطعه:
إلا النبي رسول الله؛ إن له
فخراً، وأنت بذاك الفخر تفتخر
ففطن موسى ومن بحضرته أن البيت مستدرك، ونظروا في الصحيفة فلم يجدوه؛ فضاعف صلته.
وأعظم ارتجال وقع قصيدة الحارث بن حلزة بين يدي عمرو بن هند؛ فإنه يقال: أتى بها كالخطبة، وكذلك قصيدة عبيد بن الأبرص، وقيل: أفضل البديهة بديهة أمن، وردت في موضع خوف، فما ظنك بالارتجال وهو أسرع من البديهة؟.
وكان أبو نواس قوي البديهة والارتجال، لا يكاد ينقطع ولا يروي إلا فلتة، روى أن الخصيب قال له مرة يمازحه وهما بالمسجد الجامع: أنت غير مدافع في الشعر، ولكنك لا تخطب! فقام من فوره يقول مرتجلاً:
منحتكم يا أهل مصر نصيحتي
ألا فخذوا من ناصحٍ بنصيب
رماكم أمير المؤمنين بحية
أكولٍ لحيات البلاد شروب
فإن يك باقي سحر فرعون فيكم
فإن عصا موسى بكف خصيب
ثم التفت إليه وقال:
والله لا يأتي بمثلها خطيب مصقع فكيف رأيت؟ فاعتذر إليه وحلف إن كنت إلا مازحاً.
وسمعت جماعة من العلماء يقولون: كان مسلم بن الوليد نظير أبي نواس، وفوقه عند قوم من أهل زمانه في أشياء، إلا أن أبا نواس قهره بالبديهة والارتجال، مع تقبض كان في مسلم وإظهار توفر وتصنع، وكان صاحب روية وفكرة لا يبتده ولا يرتجل.
وكان أبو العتاهية فيما يقال أقدر الناس على ارتجال وبديهة؛ لقرب مأخذه، وسهولة طريقته، اجتمع عدة من الشعراء فيهم أبو نواس؛ فشرب أحدهم ماء، ثم قال: أجيزوا: د الماء وطابا فكلهم تلعثم، حتى طلع أبو العتاهية، فقال: فيم أنتم؟ فأنشدوه، فقال وما تروى: حبذا الماء شرابا فأتى بالقسيم رسلاً شبيهاً بصاحبه، وذلك هو الذي أعوز القوم لا وزن الكلام.
وصحب رفقة فسمع زقاء الديوك، فقال لرفيقه:
هل رأيت الصبح لاحا؟
قال: نعم، قال:
وسمعت الديك صاحا.
قال: نعم، قال:
إنما بكى على المغ
تر بالدنيا وناحا
فاستيقظ رفيقه للكلام أنه شعر فرواه؛ فما جرى هذا المجرى فهو ارنجال.
وأما البديهة فبعد أن يفكر الشاعر يسيراً ويكتب سريعاً إن حضرت آلة، إلا أنه غير بطيء ولا متراخ، فإن أطال حتى يفرط أو قام من مجلسه لم يعد بديهاً.
وقالوا: اجتمع الشعراء بباب الرشيد، فأذن لهم،
فقال: من يجيز هذا القسيم وله حكمه؟
فقالوا: وما هو يا أمير المؤمنين؟
قال: الملك لله وحده
فقال الجماز: وللخليفة بعده
وللمحب إذا ما
حبيبه بات عنده
فقال: أحسنت، وأتيت على ما في نفسي، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
ومن عجيب ما روي في البديهة حكاية أبي تمام حين أنشد أحمد بن المعتصم بحضرة أبي يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي وهو فيلسوف العرب:
إقدام عمرو، في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
فقال له الكندي: ما صنعت شيئاً، شبهت ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين بصعاليك العرب! ومن هؤلاء الذين ذكرت؟ وما قدرهم؟ فأطرق أبو تمام يسيراً، وقال:
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً من المشكاة والنبراس
فهذا أيضاً وما شاكله هو البديهة، وإن أعجب ما كان البديهة من أبي تمام؛ لأنه رجل متصنع، لا يحب أن يكون هذا في طبعه. وقد قيل: إن الكندي لما خرج أبو تمام قال: هذا الفتى قليل العمر؛ لأنه ينحت من قلبه، وسيموت قريباً، فكان كذلك
وقد كان أبو الطيب كثير البديهة والارتجال، إلا أن شعره فيهما نازل عن طبقته جداً، وهو لعمري في سعة من العذر؛ إذ كانت البديهة كما قال فيها ابن الرومي:
نار الروية نار جد منضجة
وللبديهة نار ذات تلويح
وقد يفضلها قوم لسرعتها
لكنها سرعة تمضي مع الريح
وقال عبد الله بن المعتز:
والقول بعد الفكر يؤمن زيغه
شتان بين روية وبديه
ومن الشعراء من شعره في رويته وبديهته سواء عند الأمن والخوف؛ لقدرته، وسكون جأشه وقوة غريزته: كهدبة بن الخشرم العذري، وطرفة بن العبد البكري، ومرة بن محكان السعدي؛ إذ يقول وقد أمر مصعب بن الزبير رجلاً من بني أسد بقتله:
بني أسد إن تقتلوني تحاربوا
تميماً، إذا الحرب العوان اشمعلت
ولست وإن كانت إلى حبيبة
بباك على الدنيا إذا ما تولت
وهذا شعر لو روي فيه صاحبه حولاً كاملاً على أمن ودعة وفرط شهوة أو شدة حمية لما أتى فوق هذا.
وكذلك عبد يغوث بن صلاءة؛ إذ يقول في كلمة طويلة:
أقول وقد شدوا لساني بنسعة
أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا
فيا راكباً إما عرضت فبلغن
نداماي من نجران أن لا تلاقيا
وكانوا قد شدوا لسانه خوفاً من الهجاء، فعاهدهم فأطلقوه لينوح على نفسه، فصنع هذه القصيدة، وعرض عليهم في فدائه ألف ناقة، فأبوا إلا قتله، فقال
فإن تقتلوني تقتلوني بخيركم
وإن تطلقوني تحربوني بماليا
وهذه شهامة عظيمة وشدة.
ومن قول طرفة بن العبد لما أيقن بالموت:
أبا منذر كانت غروراً صحيفتي
ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وأين هؤلاء من عبيد بن الأبرص وهو شيخ الصناعة، ومقدم في السن على الجماعة إذ يقول له النعمان يوم بؤسه: أنشدني، فقال: حال الجريض دون القريض، قال: أنشدني قولك:
أقفر من أهله ملحوب
فالقطبيات فالذنوب
فقال: لا، ولكن:
أقفر من أهله عبيد
فاليوم لا يبدي ولا يعيد
فبلغت به حال الجزع إلى مثل هذا القول، على أن في بيت طرفة بعض الضراعة
وممن وجد نفسه عند إحاطة الموت به تميم بن جميل؛ فإنه القائل بين يدي المعتصم وقد قدم السيف والنطع لقتله:
أرى الموت بين النطع والسيف كامناً
يلاحظني من حيث ما أتلفت
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي
وأي امرئ مما قضى الله يفلت
وأي امرئ يدلي بعذر وحجة
وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن تغلب موقف
يسل علي السيف فيه وأسكت
وما حزني أني أموت وأنني
لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم
وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم
وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بنعمة
أذود الردى عنهم وإن مت موتوا
فكم قائل: لا أبعد الله داره
وآخر جذلان يسر ويشمت
فعفا عنه المعتصم وأحسن إليه، وقلده عملاً.
وعلي بن الجهم هو القائل وقد صلب عرياناً:
لم ينصبوا بالشاذياخ عشية ال
اثنين مغلولاً ولا مجهولا
نصبوا بحمد الله ملء عيونهم
حسناً، وملء قلوبهم تبجيلا
ما ضره أن بز عنه لباسه
فالسيف أهول ما يرى مسلولا
وهذا من جزل الكلام، لا سيما في مثل ذلك المقام، وكان علي من الفضلاء علماً بالشعر وصناعة له.
حكي عن علي بن يحيى أنه قال: كنت عند المتوكل إذ أتاه رسول برأس إسحاق بن إسماعيل، فقام علي بن الجهم يخطر بين يديه ويقول:
أهلاً وسهلاً بك من رسول
جئت بما يشفي من الغليل
برأس إسحاق بن إسماعيل
قال المتوكل: قوموا التقطوا هذا الجوهر لا يضيع.
والشاعر الحاذق المبرز إذا صنع على البديهة قنع منه بالعفو اللين، والنزر التافه؛ لما فيها من المشقة، وهو في الارتجال أعذر.
واشتقاق البديهة من بده بمعنى بدأ، أبدلت الهمزة هاء كما أبدلت في أشياء
كثيرة لقربها منها؛ فقد قالوا مدح ومده، ولهنك تفعل كذا بمعنى لأنك، ومثل ذلك كثير.
والارتجال: مأخوذ من السهولة والانصباب، ومنه قيل: شعر رجل، إذا كان سبطاً مسترسلاً غير جعد، وقيل: هو من ارتجال البئر وهو أن تنزلها برجليك من غير حبل.
المصادر
الكتاب: العمدة في محاسن الشعر وآدابه
المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (ت ٤٦٣ هـ)
المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد
الناشر: دار الجيل